إذا اختلّت العدالة – فهمي هويدي

أي دارس للقانون يدهشه- ويصدمه أحيانا- ما يجري في ساحة القضاء هذه الأيام منسوبا إليه.حتى صرت أتشكك فيما درسته قبل خمسين عاما، وما مارسته انطلاقا منه في ساحات المحاكم طوال تلك المدة.

ولا أخفى أن ذلك الشك دفعني في مرات كثيرة إلى العودة إلى نصوص القانون وشروحه وإلى أحكام محكمة النقض للتثبت من معلوماتي القانونية التي بدأت تهتز خلال الآونة الأخيرة.

وفي كل مرة كانت دهشتي تتزايد وحيرتي تستمر، حتى كدت أقتنع بأننا صرنا بإزاء توظيف جديد للقانون، يستند إلى فقه يستند في مرجعيته إلى مبادئ جديدة غير التي درسناها وخبرناها، لتحري مقاصد لا تصب بالضرورة في ادعاء الدفاع عن الحق والعدل.

لدى عديد من الملاحظات في هذا الصدد، إلا أنني سأقتصر على إيراد ثلاث منها فقد تبرز الفكرة التي أدعيها وهو ما أوجزه فيما يلي:

الملاحظة الأولى تتعلق بالدعاوى التي تنظرها محكمة الأمور المستعجلة.
ذلك أن ما تعلمناه في دراسة القانون، وما درج عليه العمل طول الوقت أن شؤون الأحزاب من اختصاص القضاء الإداري وليس القضاء العادي، مستعجلا كان أم غير مستعجل.

والمستقر قانونا في هذا الصدد أن قاضى الأصل هو قاضى الفرع، بمعنى أن هذا الاختصاص المعقود للقضاء الإداري بخصوص الأحزاب السياسية
كما يشمل الشق الموضوعي من النزاع المتعلق بالحزب السياسي،
 يشمل كذلك الشق المستعجل منه، وهو ما نخلص منه بأنه لا اختصاص لقاضي الأمور المستعجلة بأي شأن يتعلق بالأحزاب السياسية

وفي حالة ما إذا عرض الأمر على قاضى الأمور المستعجلة فإن للقاضي أن يقضى في النزاع المطروح أمامه من ظاهر الأوراق بقضاء وقتي لا يمس أصل الحق، ليبقى ذلك الحق سليما أمام محكمة الموضوع صاحبة الاختصاص الأصلي.

إلا أن ما جرى من قضاء من محكمة الأمور المستعجلة في الآونة الأخيرة عصف بكل هذا الذي تعلمته ومارسته، فضلا عما هو مستقر في الفقه القانوني.

لذلك فعندما يقضي قاضي الأمور المستعجلة بحل حزب سياسي منهيا وجوده بحكمه، فما الذي يبقى لقاضى الموضوع كي يقضي فيه؟
ذلك سؤال يحيرني فلا أجد له إجابة. فهل من مجيب يرد ردا قانونيا مقنعا لا علاقة له بالسياسة؟

الملاحظة الثانية تتعلق بقواعد الاستدلال المتبعة في المحاكم الجنائية.
ذلك أن ثمة شائعة سرت هذه الأيام مفادها أن المحكمة الجنائية تقضي في الدعوى المعروضة عليها بما هو مسطور لديها في الأوراق.

 وذلك قول فاسد لأن أي دارس للقانون فضلا عن أن يكون مشتغلا به يعلم أن الأصل في المحاكمة الجنائية هو ما يعرف بشفوية الإجراءات.
 وهو ما يعني في لغة القانون أن على القاضي أن يحقق الدعوى الجنائية بنفسه أي يحقق الدعوى من جديد ويسمى هذا بالتحقيق النهائي تمييزا له عن التحقيق الابتدائي الذي تجريه النيابة العامة.
 الأمر الذي يعنى أن اقتناع المحكمة يجب أن يكون مستمدا من الدليل الذي تحققه هي بنفسها.
كذلك من المبادئ التي تميز الدعوى الجنائية عن الدعوى المدنية، ما يعرف بالدور الإيجابي للقاضي.

فالقاضي الجنائي، على خلاف قاضى الدعوى المدنية غير مقيد بما في الأوراق، فله أن يطرح ما فيها جانبا، ويقوم بتحقيق الدعوى من جديد منطلقا من النقطة التي يرى أنها ستوصله إلى الحقيقة فيها.

بكلام آخر فإن مقولة إن القاضي الجنائي مقيد بما في الأوراق المطروحة أمامه هو قول لا علاقة له بصحيح القانون.

والقول بغير ذلك فضلا عن مخالفته القواعد الأصولية التي تحكم الفصل في الدعوى الجنائية، فإنه يجعله مقيدا بتحقيقات لم يجرها بنفسه، ولهذا فمن المقرر أنه ليس للتحقيق الابتدائي كله أي حجية في الإثبات، بما في ذلك التحقيقات التي تجريها النيابة العامة
 (مبادئ الإجراءات الجنائية الدكتور رؤوف عبيد- الطبعة الثالثة عشرة ض 541).

وفي خصوص ما عرف بقضية القرن، فقد كان من الواضح ابتداء أن ملف الدعوى تورم بآلاف الصفحات من التحقيقات التي لا يطمأن إلى أنها تمثل تحقيقا متوازنا للأحداث يمكن أن تتحقق به العدالة، لا لعلة فيمن يجرى الحقيق، بل لأن الجهة المنوط بها جمع الأدلة، وهي الشرطة، هي في واقع الأمر المتهم الحقيقي في القضية كهيئة وليس كبعض أفراد منها، ولا يمكن عقلا أن تقدم دليلا يدينها.

لذا كان على من ينظر الدعوى أن يتفلت في تحقيقها من إسار هذه التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة، وان ينطلق من نقطة تقع خارجها.

وليس هناك أدق ولا أفضل من تقرير تقصى الحقائق الذي أجرته لجنة شبه قضائية كى يجعل منه مدخلا للتحقيق النهائي الذي تجريه المحكمة،
وذلك بأن تحقق بنفسها مرة أخرى كل الأدلة التي أشار إليها ذلك التقرير، فضلا عن سماع أقوال من أجروه كشهود في الدعوى.

الملاحظة الثالثة الصادمة لمن درس القانون أو مارس المحاماة أن الكثير من أحكام الإدانة في الجنايات والجنح استندت فيما قضت به إلى محاضر التحريات التي تجريها الجهات الأمنية،

وذلك خطأ محض لأنه من المقرر الذي كان مسلما به قبل 30 يونيو 2013 أن التحريات لا تصح وحدها أن تكون قرينة فضلا عن أن تكون دليلا تنبني عليه إدانة في قضية جنائية، باعتبار أنها تعتبر من الناحية القانونية رأيها شخصيا لمجريها.

ولمحكمة النقض كلام حاسم وواضح في ذلك.
من ذلك قولها أن «التحريات لا تصح وحدها لأن تكون قرينة معتبرة أو دليلا أساسيا على ثبوت الجريمة،
واستناد الحكم على عقيدة حصلها الشاهد من تحرياته لا على عقيدة استقلت من المحكمة بتكوينها بنفسها يعتبر قصورا في التسبيب».
(نقض 3/11/1988 أحكام النقض من 39 ق 153 ص 1112).

النص السابق ليس لي، ولكنني تلقيته في رسالة من الأستاذ مدحت أبوالفضل، المحامي بالنقض، وقد ختمها بقوله:
إن الكثير من مفاصل الدولة المصرية أصابها التفكك، وأعرب عن خشيته من أن تلقى منظومة القانون ذات المصير
وحذر من أن ذلك ينذر بشر مستطير، لأنه إذا غاب صحيح القانون عن المشهد اختلت العدالة
وإذا اختلت العدالة انفسح الطريق أمام العنف، وصار ممهدا أمام الإرهاب، والعياذ بالله».


صحيفة الشرق القطريه السبت 14 صفر 1436  6 ديسمبر 2014

ليست نهاية الربيع العربي – فهمي هويدي

الربيع العربي لم ينته.. وكل الذي حدث أنه هزم في بعض جولات تقدمه
(1)

أتحدث عن صدمة البعض وشعورهم باليأس حين أعلنت براءة الرئيس الأسبق حسني مبارك وأعوانه في مصر،
 والذين انتابهم نفس الشعور حين أعلن فوز حزب الثورة المضادة في الانتخابات التشريعية التونسية،
 وظهور علي عبدالله صالح كأحد اللاعبين الرئيسيين في الساحة اليمنية،
 والاحتراب الأهلي في ليبيا.
 ذلك غير عجز الثورة السورية عن إسقاط نظام الأسد طوال السنوات الأربع الماضية،
والظهور المريب لتنظيم داعش الذي دخل إلى الساحة كي يفسد المشهد كله في الشام.
أتحدث أيضا عن الذين احتشدوا لإفشال الربيع العربي وإجهاض مسيرته إما تضامنا مع حلفائهم أو دفاعا عن أنفسهم أو الاثنين معا.
ففتحوا خزائنهم وحشدوا منابرهم الإعلامية واستدعوا عناصر الدولة العميقة من مكامنهم، وأطلقوا حملات التعبئة التي سممت أجواء الربيع وأعلنت الحرب على التاريخ.

فكانت الانتكاسات والهزائم التي سربت القنوط إلى نفوس كثيرين،
 الأمر الذي سوغ للبعض أن يعلن على الملأ وفاة الربيع العربي وطي صفحته،
ومن ثم صبوا عليه اللعنات وأهالوا على وجهه الأوحال ونعته بمختلف أوصاف الشماتة والهجاء، التي كان أخفها أنه كان خريفا وخرابا عربيا.

لا أنكر شواهد الفشل والانتكاسات التي حفلت بها مسيرة الربيع العربي،
كما أن الانتصارات التي حققتها الثورة المضادة ماثلة تحت أعيننا ولا سبيل لتجاهلها أو إنكارها بدورها،

 لكنني أزعم أن هذا كله وذاك لا يعني بالضرورة نهاية الربيع العربي إذا احتكمنا إلى تحليل الواقع وخبرة التاريخ،
 وإذا اعتبرنا ما مررنا به درسا نتعلم منه ما يبصرنا بأخطائنا ومواطن الضعف فينا، وليس نعيا لتطلعات شعوبنا وأحلامها.

(2)

قبل أسبوعين قدم إلى القاهرة أحد الباحثين الإندونيسيين المرموقين هو البروفيسور سالم سعيد الذي يقوم بالتدريس في كلية الدفاع بجاكرتا، وكان الهدف من زيارته هو دراسة التحولات التي شهدتها مصر بعد ثورة 25 يناير، وانتهت بعزل الدكتور محمد مرسي وانتقال السلطة إلى مرحلة مغايرة بعد الثالث من يوليو عام 2013،

 ولأنه متخصص في دراسة العلاقة بين المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية وبصدد إعداد كتاب عن التجربة المصرية، فإنه التقى عددا من المثقفين المصريين، وطرح على الجميع قائمة من الأسئلة التي تعلقت بما جرى وتحليله،

وكانت أهم خلاصة خرج بها أن نقطة الضعف الأساسية في التجربة المصرية بعد ثورة يناير 2011 تكمن في هشاشة المجتمع المدني بمختلف مؤسساته السياسية والنقابية والمهنية،
الأمر الذي أحدث فراغا هائلا في الساحة السياسية، كانت المؤسسة العسكرية هي الوحيدة القادرة على ملئه،

 وقد اعتبر أن ثمة تماثلا بين الخبرتين الإندونيسية والمصرية في هذا الصدد،
ذلك أن الجنرال سوهارتو الذي تولى السلطة في عام 1967 وأمضى أكثر من ثلاثين عاما في منصبه ــ كما حدث مع مبارك ــ شاع فيها الفساد مع الاستبداد الذي فرغ البلاد من قواها المدنية. ولم يستقل إلا بعدما انطلقت الانتفاضة الشعبية ضده،

 لكن حكمه جعل المجتمع المدني في حالة من الضعف مماثلة لما آلت إليه الأوضاع في مصر،
وقد عاشت إندونيسيا في ظل ذلك الفراغ بعض الوقت،

ولكن نائبه الدكتور برهان الدين حبيبي الذي كان أستاذا جامعيا أدار الفترة الانتقالية بكفاءة وضعت إندونيسيا على المسار الديمقراطي الصحيح الذي أنعش المجتمع المدني وحصن البلاد ضد التقلبات والمغامرات السياسية،

ولأن البروفيسور سعيد كان قد تابع جانبا من التجاوبات الحاصلة بين الأحزاب السياسية المصرية بشأن ترتيبات الانتخابات التشريعية القادمة،
 فقد اعتبر ما رآه دليلا على عمق الفراغ في الساحة السياسية، الذي لا سبيل إلى تجاوزه إلا باستعادة المسار الديمقراطي بصورة جادة مع الاستعداد لاحتمال ثمن الدخول في تلك المرحلة، التي لن يتحقق فيها النجاح إلا بعد المرور بمحطات الفشل واجتيازها.

أدري أن دروس التجربة المصرية تحتاج إلى مناقشة أوسع لا تحتملها أجواء الاستقطاب الراهنة، التي هي من علامات افتقاد المجتمع المدني إلى الرشد وتغليب المصالح العليا التي تتجاوز الانتماءات باختلاف أشكالها.

 إلا أن النقطة التي أثارها الباحث الإندونيسي لها أهمية خاصة، وربما كانت تمثل إحدى العلامات الفارقة بين النجاح النسبي الذي حققته الثورة في تونس والفشل النسبي الذي أصابها في مصر.

(3)

على صعيد آخر فإننا نخطئ في قراءة الربيع العربي بحسبانه انتفاضة من شأنها إسقاط لأنظمة وإقامة لأنظمة بديلة
 بذات القدر فإننا نخطئ إذا حاكمناه بسلوك القابضين على السلطة أيا كانوا،
 ذلك أنني أزعم أن الربيع في حقيقته هو بمثابة روح جديدة سرت في جسد الأمة، عبأتها بالرغبة في التغيير والثورة على الظلم السياسي والاجتماعي،
وهي من هذه الزاوية تعد تحولا تاريخيا لا يتوقع إنجازه خلال عدد محدود من السنوات،

ونحن لا نعرف في التاريخ المعلوم ثورة سريعة كاملة الأوصاف أنجزت التحول الديمقراطي بقليل من التكاليف وبكثير من التسامح والوفاق.

 بذات القدر فلم تحدثنا خبرات الأمم على مدار التاريخ عن ثورة مضادة كانت أقل حدة وغلوا من الثورة الأصلية،

ولكن العكس هو ما حدث، لأن التجارب التاريخية أكدت أن الثورات المضادة عادة ما تكون أكثر خطورة وعنفا وأسوأ من الواقع الذي سبق الثورة،
وهو أمر مفهوم، لأنه من الطبيعي أن يشتد خوفها من خسارة المكاسب الكبيرة التي راكمتها على مدار سنين طويلة.

ولعلم الجميع فما من ثورة في التاريخ إلا وأعقبتها ثورة مضادة اتفقت في الهدف واختلفت في الدرجة،

ولعلي أعيد التذكير في هذا الصدد بأن آل البوربون عادوا إلى عرش فرنسا بعد عقدين ونصف عقد على اندلاع الثورة الفرنسية.

واستطاع شاه إيران العودة إلى الحكم بعد ثورة مصدق

واستطاعت الثورة المضادة في تشيلي برئاسة الجنرال أوجستو بينوشيه الانقلاب على حكم سلفادور الليندي الذي وصل إلى الرئاسة عبر صناديق الاقتراع.

أكثر من ذلك، فعادة ما تكون نسبة نجاح الثورات المضادة كبيرة، بسبب امتلاك الأنظمة لأدوات القمع، وقدرتها على تجنيد الفئات الاجتماعية المستفيدة منها،
 فضلا عن قدرتها على ضرب القوى الاجتماعية الفاعلة ببعضها البعض نتيجة اقتحامها للبنى الاجتماعية.

وبسبب احتكارها للسلطة والثروة فإن ذلك يوفر لها خبرة أوسع بالخرائط الاجتماعية وكيفية اختراقها واستمالتها، إلى جانب أن ذلك الاحتكار يوفر لها مصادر للتمويل تمكنها من الإنفاق بشكل باذخ على المعارك التي تخوضها على مختلف الجبهات.

(4)

الأستاذ الجامعي الأمريكي ذو الأصل الياباني فرانسيس فوكوياما صاحب كتاب «نهاية التاريخ» له كتاب جديد صدر أخيرا بعنوان «النظام السياسي والتآكل السياسي». تعرض فيه للربيع العربي وما أسفر عنه من «نتائج مؤسفة». حتى الآن ــ على حد تعبيره

ــ ومما قاله إن كثيرين من الغربيين خصوصا الأمريكيين منهم والإسرائيليين، عبروا عن استيائهم لذلك، واعتبروا أن الأوضاع في العالم العربي كانت أفضل قبل حلول ذلك الربيع.

وقال آخرون إن الربيع جلب أنظمة إسلامية زادت من مشكلات المجتمعات العربية،

 وفي رده على هؤلاء قال فوكوياما: إن الذين يتحدثون عن المشكلات وينتقدون الربيع العربي ينسون أن «ربيع أوروبا» كان طويلا ومعقدا وفوضويا أحيانا.

ذلك أن استقرار الديمقراطية والتمكين لها في أوروبا اقتضى مرور قرن كامل على ربيع الشعوب في عام 1848 (الثورة الفرنسية).

 أضاف الكاتب قائلا إنه لابد من مضي وقت طويل وفوضوي أحيانا لكي تستقر القيم الديمقراطية في العالم العربي وتدرك المجتمعات أهمية الانتخابات الحرة واحترام رأي الأغلبية والحاجة إلى تداول السلطة،
ذلك أن زراعة ورعاية بيئة ثقافية تحترم الحرية ليست أمرا سهلا.

ثمة نقطة أخرى تهمنا في السياق الذي نحن بصدده أثارها أحد كتاب صحيفة «لوموند» الفرنسية ــ أرنو لوبا مانتييه ــ إذ ذكر أن المسار الديمقراطي يتقدم باطراد في أنحاء العالم،

 إذ في الفترة بين عامي 1970 و2008 تضاعف حجم ثروات العالم أربعة أضعاف،
 وفي عام 1974 اقتصر عدد الدول التي التزمت بالتطبيق الديمقراطي على 40 دولة فقط، لكنه وصل الآن إلى 120 دولة،

إلا أن العالم يمر الآن بما يمكن وصفه بـ«الركود الديمقراطي»، على حد تعبير لاري دايموند الخبير في شؤون الديمقراطية والأستاذ في جامعة ستانفورد الأمريكية.

الركود الديمقراطي يعد أحد الظواهر المرصودة في العالم العربي الذي أصبحت فيه الخيارات الديمقراطية ضعيفة الصلة بالليبرالية،

وسواء كان ذلك راجعا إلى التركيبة الاجتماعية متعددة الهويات المهيمنة في العالم العربي، أو إلى «الربيع النفطي» الذي أدى إلى تهميش فكرة الديمقراطية وإضعافها أو إلى الاستقطاب الذي قسَّم النخبة وعطل دورها،
 فالشاهد أن هذه كلها أوضاع قابلة للتغيير ولا يمكن اعتبارها جدارا يصعب اختراقه يحول دون تحقيق الربيع العربي لأهدافه المنشودة، خصوصا إذا استعادت الجماهير وعيها وتحملت النخبة مسؤوليتها التاريخية إزاء شعوبها.

أدري أن هجوم الثورة المضادة شديد وشرس وأن عناصره تملك من الخبرات والإمكانات والدعم الإقليمي الذي يوفر لها فرص التقدم والنجاح،

 ثم إننا لا نستطيع أن نتجاهل دور المنابر الإعلامية المعبرة عن تلك الثورة، التي حققت نجاحا مشهودا في تشويه الرأي العام وتخويف جماهيره.

وهو ما لمسناه بوضوح في تونس، حين نجحت عمليات التشويه والتخويف على نحو جعل الأغلبية تصوت لحزب الثورة المضادة في جولة الانتخابات التشريعية الأخيرة، ويعزف بدرجات متفاوتة عن تأييد المناضلين الذين تمردوا على استبداد النظام السابق وضحوا بالكثير دفاعا عن حق الجماهير في الحرية والديمقراطية.

كل ذلك صحيح، لكن الأصح منه أن رحلة التحول الديمقراطي طويلة وشاقة وأن الربيع العربي صنعته إرادة الشعوب ولم تصنعه الزعامات ولا الأحزاب،

وقد علمتنا خبرة التاريخ أن إرادة الشعوب لا تقهر وأن أي تشويه لتلك الإرادة يظل خبثا طارئا لا دوام له.

صحيفة الشرق القطريه الثلاثاء 10 صفر 1436 – 2 ديسمبر 2014