حقيقة أزمة القضاء


صحيفة السبيل الأردنيه الاثنين 3 ربيع أول 1437  14 ديمسبر 2015

حين يشعر القضاة بالخطر فإن العدل يصبح في أزمة.

ولأنه أساس الملك فإن أزمة العدل تعنى مباشرة أن الوطن في أزمة.

تلك كانت خلاصة خرجت بها بعدما وقعت على تفصيلات مشروع جديد لما سمى «الأمن القضائي» في مصر.

إذ شرحه لنا مسئول في وزارة العدل اكتشفنا أنه مساعد الوزير للأمن القضائي، وذلك في حوار نشرته جريدة الأهرام يوم الجمعة الماضي ١١/١٢.

ولم أكن وحدى الذي فوجئ بأن القصة لها خلفية ترجع إلى شهر يونيو الماضي حين أصدر آنذاك وزير العدل قرارا بإنشاء قطاع بذلك الاسم بدعوى تأمين القضاة ضد خطر الإرهاب.

 ذلك أن آخرين ممن أعرف لم يسمعوا بالخبر من قبل وشاركوني الشعور بالامتعاض والدهشة، ليس فقط لأن باب المزايدة على موضوع الأمن بات مفتوحا على مصراعيه،

 إذ ما عدنا نتحدث عن استحقاقات الأمن القومي أو حتى الأمن الغذائي أو المائي، وإنما صرنا نشهد تسابقا على إجراءات أمن الجامعات والأمن الفكري والأمن الإعلامي، فضلا عن الأمن السياسي بطبيعة الحال

 وفهمت من الحوار المنشور أن اغتيال القضاة الثلاثة في العريش والنائب العام السابق هشام بركات في القاهرة، وراء إطلاق فكرة الأمن القضائي.

وربما أسهم في ذلك قلق بعض الدوائر على القضاة الذين أصدروا أحكاما مبالغا في تشددها على المتهمين في القضايا السياسية، إلا أنني لم أقتنع بالفكرة لأن الحفاظ على الأمن مسئولية جهات أخرى،

ولا يفهم أن تلجأ كل جهة يتعرض بعض أفرادها لاحتمال الاعتداء إلى إنشاء منظومة أمنية خاصة بها.

علما بأن الاعتداءات التي يتعرض لها الأطباء مثلا أكبر بكثير مما تعرض له القضاة، ومع ذلك فلا يعد ذلك مبررا لاستصدار قرار لتأسيس جهاز يتولى رعاية أمن الأطباء.

صحيح أن مصطلح الأمن القضائي ليس جديدا تماما، ولكنه متداول في أقطار أخرى منها المملكة المغربية لكن له مفهوما آخر يختلف عن المقصود به في مصر،

فالمصطلح في المغرب يراد به ترسيخ الثقة في المؤسسة القضائية والاطمئنان إلى ما يصدر عنها،

وقرأت أنه متداول أيضا في فيتنام إلا أنه يراد به هناك إنشاء قوة خاصة لتنفيذ الأحكام القضائية.

وفي كندا ينصرف المعنى إلى إقامة نظام مبتكر للمساعدة القضائية،

 أما المراد به في مصر فهو تأمين القضاة وأعضاء النيابة وتطوير وحدات الأمن في المحاكم والجهات القضائية. وذلك بالتنسيق مع الجهات المسئولة عن الأمن في الدولة،

وكما ذكر المستشار مجدى حسين عبدالخالق مساعد الوزير المسئول عن القطاع فإن الأمن القضائي في نهاية المطاف هو أمن إداري غير مسلح، لكنه على تواصل دائم مع الجهات الأمنية في الدولة.

 ذكر مساعد الوزير أيضا أنهم بصدد تخصيص إدارات للأمن القضائي في جميع المحاكم والمنشآت القضائية، مع تعيين كوادر أمنية بتلك الإدارات من أناس لهم خبرة أمنية ويتمتعون باللياقة البدنية اللازمة.

أفادنا الرجل كذلك بأنه تم إبرام بروتوكولات تعاون مع خمس محافظات لتأمين المحاكم والمنشآت القضائية من خلال وسائل عدة منها توفير البوابات الإلكترونية وكاميرات المراقبة.

كما تم تزويد بعض المحاكم بأجهزة اتصال لاسلكية حديثة توفر شبكة تواصل دائم مع غرفة عمليات العدل والقضاة على نحو يتعذر معه التشويش أو التنصت.

الأهم والأخطر من ذلك أن القاضي في ظل هذه الأوضاع سوف يفقد استقلاله فضلا عن هيبته،

ذلك أنه سيصبح في حماية الدولة وكفالتها. وأن أمنه لم يعد مستمدا من عدله، ولكن من رعاية الدولة له والحراس الواقفين ببابه أو المرافقين له في حركته، وهو ما يبعث على القلق، لان القضاء استمد مكانته وشموخه من خصوصية بنائه وتفرده.

إذ تكون ذلك البناء من وحدات صغيرة لكل منها ذاتيته المستقلة بما يعنى أن قرار القاضي ينبع من ذاته وقناعته الخاصة، وهو في ذلك يظل منفصلا عن محيطة، فلا اعتبار عنده لرئيس فوقه أو نظير يعادله.

 وذلك معمار يهتز ويفقد خصوصيته في ظل الوضع المستجد،

ذلك أنه يضعف كثيرا موقف القاضي لأنه يشعره بأنه في حماية السلطة وأن ما يكفل له الأمان ليس العدل الذي يتحراه ولكن الأعين التي تحرسه.

إن تسطيح المشهد واختزاله في قرار بإنشاء وحدة للأمن القضائي ينم عن تسرع له تأثيره الفادح على مستقبل ذلك المرفق الجليل الذي ينبغي أن يتم التعامل معه بما يليق بمكانته وخطورته في المجتمع.

ذلك أنه ينبغي التروي في الأمر والإجابة عن أسئلة جوهرية قبل أن يصبح الجهاز الأمني هو «الكفيل» الذي يصون القضاء ويحميه.

من تلك الأسئلة مثلا:

هل القضاء في خطر حقا؟

وهل استهداف بعضهم سببه صفتهم القضائية أم لكونهم جزءا من النظام؟

وما دور السياسة في ذلك؟

وهل الذين يتعرضون للتهديد هم كل القضاة، أم بعضهم ولماذا؟

إن أحدا لا يستطيع أن يساوم على أمن القضاة.

 لذلك فإن التدقيق في مصادر الأخطار التي تهدد بعضهم من الأهمية بمكان.

وإذا ما فتح الملف وجرت مناقشته بصراحة وشجاعة فربما تبين لنا أن ما يهدد القضاء حقا ليس الإرهاب ولكنها ضغوط السياسة التي هزت صورته وأثرت على رصيد الثقة فيه.


 وليس في ذلك أي تبرير أو دفاع عن جرائم الإرهاب التي ينبغي أن تظل محل إدانة في كل الأحوال.

 ولكنها دعوة إلى تفكير آخر في مستقبل ميزان العدل وأمن الوطن، الذي يستحق أن نناقشه بعمق وجدية.

سلطة بتلك القوة تنتج برلمانًا بذلك الضعف - فهمى هويدى

صحيفة الشرق القطريه الثلاثاء 4 ربيع أول 1437  15 ديسمبر 2015

مجلس النواب الجديد يكشف عمق أزمة السياسة فى مصر التى لها تاريخ يجب أن يقرأ جيدا.

(1)

تحفل الصحف المصرية هذه الأيام بأخبار التجاذب والتراشق الحاصل بين عناصر مجلس النواب الجديد، خصوصا الأحزاب التى تحاول الانخراط فى ائتلافات تجعل منها قوى ضغط مؤثرة داخل المجلس، الذى يفترض أن يبدأ اجتماعاته فى ٢٨ ديسمبر الحالى.

وكان أكثر ما أثار ضجة فى هذا الصدد الدعوة إلى إقامة ائتلاف دعم الدولة، التى أطلقها اللواء سامح سيف اليزل ضابط المخابرات المتقاعد.

 الجدل انصب على ثلاثة أمور.
 الأول اسم الائتلاف لأن صياغته تعطى انطباعا يشكك فى موقف الذين لم يلتحقوا به، ويكاد يتهمهم بأنهم فى موقف الضد أو عدم الولاء للدولة المصرية،

الأمر الثانى أن المنسق العام للادعاء ذكر فى تصريحات صحفية أن الإطار الذى شكله أصبح يضم ٤٠٠ عضو فى البرلمان (من جملة الأعضاء البالغ عددهم ٥٥٠ نائبا) أى أنه ضمن الأغلبية، وأصبح تحت قيادة واحدة قبل أن يبدأ مجلس النواب أعماله،
 الأمر الذى يعيد إلى الأذهان صور برلمانات ما قبل الثورة.

أما الأمر الثالث فهو يتمثل فى القنبلة التى فجرها أحد النواب الذين انتخبوا عن حزب الوفد (اللواء بدوى عبداللطيف هلال)، حين ذكر أنه تلقى اتصالاً من جهاز الأمن الوطنى دعاه للانضمام للائتلاف المذكور ففعل،
 وهو التسجيل الذى كشف عن أن الجهاز الأمنى وراء العملية بثه موقع «اليوم السابع».
 كما أبرزت الخبر صحيفة «الشروق» على صدر صفحتها الأولى يوم الجمعة ١١/١٢.

لك أن تتصور مدى اللغط والضجيج الذى أثارته كل واحدة من النقاط الثلاث فى الأوساط ذات الصلة التى تناقلتها وسائل الإعلام وشغلت بها الرأى العام الذى فوجئ بحملات الانتقاد والتجريح لائتلاف دعم الدولة والقائمين عليه.

وبدا أن أغلب الجدل انصب على نقض ادعاء منسق الائتلاف بحكاية الاستحواذ على أغلبية البرلمان،

ومن ناحية ثانية فإن الآخرين حرصوا على التأكيد على أن دعم الدولة ليس مقصورا على ذلك الائتلاف الذى حمل الاسم وحده، لأن الجميع جعلوا ذلك الدعم نصب أعينهم.
 من ثم فإن التجاذب جاء كاشفا عن أن التنافس بين المتعاركين لا ينطلق من أى خلاف سياسى، ولكنه يدور حول أفضلية الاقتراب من السلطة.
وهو ما يدعونا إلى القول بأننا بصدد برلمان تنازل مقدما عن حقه فى الرقابة فى حين تنافست الائتلافات المشاركة فيه على تمثيل السلطة، وليس على تمثيل المجتمع.

(2)

هذه النتيجة لا هى مفاجئة ولا ينبغى أن تكون صادمة.
ذلك أن تصميم البرلمان من البداية روعى فيه أن يكون منصة ومنبرا لقوى الموالاة.
ولم يكن سرا أن الأجهزة الأمنية كانت حاضرة فى طور ترشيح أعضائه بمثل ما أنها حضرت فى تشكيل الائتلافات.

 من ثم كان معلوما مسبقا بأننا بصدد مجلس بلا معارضة بدعوى أنه «برلمان الضرورة» (!).

وهو ما دفع البعض إلى وصفه على أنه برلمان السمع والطاعة،

ومن زملائنا من كتب قائلاً: إنه إذا كان البرلمان السابق خاضعا لتوجيه المرشد، فإن اللاحق سيكون برلمان الجنرال.
وقرأت لمن قال أنه سيكون برلمانا منزوع العافية تحظر فيه اللاءات ويمارس فيه الجميع حرية الموافقة.. إلخ.

مثل هذه التشبيهات حملت البرلمان القادم بما لا يحتمل، وغضت الطرف عن حقيقة الوضع القائم فى مصر الذى ماتت فيه السياسة، واختلت فى ظله موازين القوة.
وهو ما استدعى أحزابا سياسية بلا جمهور، تصدرتها قيادات وزعامات لهواة جاءوا من خارج السياسة،
استصحب ذلك تراجعا شديدا لدور المجتمع بمختلف تشكيلاته وأوعيته.

ولم يكن مستغربا الأمر كذلك أن نصبح بصدد أحزاب هشة وقوى مجتمعية ضعيفة باتت أشكالاً وهياكل بلا فاعلية.

وخلفية بهذه الصورة لا يتوقع لها أن تفرز برلمانا قويا ونشطا فى ممارسة الرقابة والمساءلة والتشريع.
 إن شئت فقل إن ضعف البرلمان ومحدودية دوره هو فى حقيقة الأمر مرآة عاكسة لضعف المجتمع وقلة حيلته.
وهو ما يسوغ لنا أن نقول إن مجتمعا بذلك الهزال لا يخرج منه إلا برلمان بهذا الشكل.

لنا أن نقول إن انفراط عقد ائتلاف ٣٠ يونيو أسهم فى إضعاف البرلمان،
 وإن التضييق الراهن على الحريات العامة وكثرة الخطوط الحمراء وعمليات الترهيب والتخويف، التى تتعرض لها الأصوات المعارضة،
هذه العوامل كان لها تأثيرها الذى لا ينكر على الحماس للمشاركة والعزوف عن الترشح من جانب الفاعلين السياسيين، أو العزوف عن التصويت من جانب أغلب الناخبين.

إذا ما أردنا أن نستخلص العبرة من المشهد، فلا مفر من الاعتراف بأنه جاء كاشفا عن أزمة السياسة فى مصر وتعبيرا عن انقراض الطبقة السياسية.

ولكى لا نجلد أنفسنا فإن تحرير المشكلة يصبح ضروريا، الأمر الذى يدعونا إلى طرح السؤال التالى:
هل نحن بصدد سمات مرحلة أم إننا بإزاء مشكلة واقع وأزمة مجتمع؟

(3)

فى الإجابة على السؤال يبرز رأيان.
الأول عوَّل على الجغرافيا، وعبر عنه الدكتور جمال حمدان، عالم الجغرافيا السياسية المعروف، فى كتابه «شخصية مصر».
 الثانى أحال إلى التاريخ وتبناه المستشار طارق البشرى من خلال تحقيقه لتاريخ مصر فى القرنين الأخيرين، وعبر عنه فى كتابه «جهاز الدولة وإدارة الحكم فى مصر».

الدكتور حمدان انطلق من النظرية التى راجت فى القرن التاسع عشر وربطت بين الطغيان السياسى والبيئة النهرية.
بما يعنى أن الجغرافيا السياسية تكمن وراء التنظيم السياسى الذى ينشأ فى المجتمعات النهرية التى لابد أن تقدم فيها سلطة تقوم بمهمة ضبط النهر.

وتلك مهمة كان ينبغى أن يقوم بها الحكم والحاكم، الذى صار وسيطا بين الإنسان والبيئة أو وصيا على العلاقة بينهما.
وهو ما برز فى مصر الفرعونية.
إذ عد فرعون ضلعا أساسيا فى الإنتاج إلى جانب الضلعين الطبيعيين، الماء والشمس.

ولأن ضبط النهر كان بداية كل شىء فإن فرعون تحول إلى الملك الإله، وصارت الحكومة المركزية القوية التى تتولى تلك المهمة من أخص خصائص المجتمع المصرى على مدار التاريخ.

خلص الدكتور حمدان من ذلك إلى أن الطغيان الفرعونى كان نتيجة حتمية للدولة المركزية..
مضيفا إذا كانت مصر أول وحدة سياسية أو أول دولة موحدة فى التاريخ، إلا أنها صارت بها على الأرجح أول طغيان فى الأرض.
«أقدم وأعرق حكومة مركزية فى العالم، ولكن أقدم وأعرض استبداد فى الأرض».

أضاف ما نصه «فى النتيجة أصبحت العلاقة عكسية بين المواطن والدولة. فتضاءل حجم الشعب بقدر ما تضخم وزن الحكم .
من هنا فإن الحكومة المركزية السباقة التى نسرف فى التفاخر بها عادة، ليست خيرا محضا، بل لها مثالبها وثمنها الفادح. وسنرى كم يصدق هذا حتى وقتنا الحالى.
(جـ٢ ص ٥٥٥ ــ والكتاب طبع عام ١٩٨١).

الفكرة الجوهرية التى تتصل بموضوعنا فى كتاب المستشار البشرى تتمثل فيما يلى:
 إن إدارات الدولة الحديثة فى مصر منذ عصر محمد على باشا فى القرن التاسع عشر نشأت بأساليب التنظيم الأوروبى الحديث فى ذلك القرن والسنوات التى تلته.
وهو ما قامت به أبنية الدولة المركزية القومية آنذاك.

 الحكم المركزى حقق طفرة واسعة فى مصر مستعينا فى ذلك بنماذج التنظيمات الإدارية الحديثة فى أوروبا، وبوسائل السيطرة الحديثة فى ظروف التطور الأوروبى فى الفترة ذاتها.

وكان ظهور أساليب الإدارة الحديثة فى أوروبا ونماذج التنظيمات الحديثة هناك متوازنا مع تطور مجتمعات أوروبا الغربية فى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

بمعنى أن النمو كان متوازيا ومتوازنا. فكان اشتداد عود الدولة من حيث القدرات والكفاءات تم بالتوازى مع اشتداد عود أجهزة إدارة المجتمع المدنى.
فلم تطغ قوة الدولة الحديثة على أجهزة إدارة الهيئات المدنية والشعبية ولا أزهقت روحها.

 أما فى بلادنا العربية والإسلامية والشرقية بعامة فلم يحدث ذلك النمو المتوازى والمتكافئ.
ذلك أن أجهزة الدولة الحديثة فى بلادنا إما كوَنها الاستعمار بعد سيطرته على مقدراتنا، وإما أنها نشأت نشأة محلية بخبرات التنظيمات الأجنبية لمواجهة مخاطر الخارج.

فى مقابل ذلك وبالموازاة له كانت النظم الاجتماعية والاقتصادية فى المجال الأهلى والشعبى تجرى فى غالبها حسب الانماط التقليدية القديمة.
 وهو ما ترتب عليه تعاظم قوة السلطة ممثلة فى جهاز الإدارة، واستمر ضعف المجتمع.

 الأمر الذى رتب نتيجة أفدح تمثلت فى تمدد أنشطة جهاز إدارة الدولة الذى تغول بحيث حل محل الأنشطة الأهلية للأفراد والجماعات،
 إذ لم يعد ذلك الجهاز يتولى إدارة الشأن السياسى للجماعة الوطنية فحسب، ولكنه أصبح يباشر مختلف الشئون المعيشية للشعب المصرى كله.
كما أصبح يهيمن على مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.

وبسبب عدم التكافؤ بين قوة السلطة وضعف المجتمع فإن مصر منذ عام ١٩٢٣ وحتى الوقت الراهن لم تعرف نظام حكم يقوم على وجود حقيقى لنظام برلمانى منتخب انتخابا حرا ونزيها ويمارس عمله فى استقلالية عن السلطة التنفيذية إلا فى سنوات لا يزيد مجموعها على ثمانية أعوام فى ظل دستور ١٩٢٣(فى الفترة ما بين عامى ١٩٢٣ و١٩٥٢)،
كما أنه خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير فإن مصر عاشت فى حالة طوارئ ثابتة اعتاد عليها جهاز الدولة، وتشكلت فى إطارها تجاربه وثقافته.

(4)

ما يحدث فى مصر الآن ليس منفصلاً عن تلك الخلفية. رغم أننى لا أتفق مع رأى الدكتور حمدان الذى يوحي بأن تحكم السلطة واستبدادها قدر مكتوب على مصر بأمر الجغرافيا.

ويبدو كلام المستشار البشري أكثر إقناعا، من حيث إنه يسلط الضوء على مكمن الداء المتمثل في الخلل القائم فى علاقة السلطة متعاظمة القوة والمجتمع منزوع العافية.
وهو ما نشهده في تركيبة مجلس النواب الذي تم انتخابه وفي الدور المرشح له وأصبح «دعم الدولة» عنوانا له.

إذا صح هذا التحليل فإنه ينبهنا إلى أن مجلس النواب الذي نحن بصدده إفراز طبيعي لحالة الخلل التي تعتري علاقة السلطة بالمجتمع.
ومن ثم لا حل لأزمة السياسة في مصر إلا بعلاج ذلك الخلل بمحاولة استعادة المجتمع لعافيته من خلال إقامة ديمقراطية حقيقية تقوم على مدنية المجتمع وتعيد الاعتبار للفصل بين السلطات وترفع سقف الحريات العامة.

وهو ما يستدعي دور المجتمع ويمكنه من تشكيل المؤسسات المعبرة عنه.. المؤهلة للمشاركة والمساءلة وتداول السلطة.

ولئن بدا ذلك حلما بعيد المنال، فإننا ينبغي أن نحمد الله على أن حرية الحلم لا تزال مكفولة وغير قابلة للمصادرة أو الوضع تحت الحراسة.
.....................

نجحت العملية وماتت السوق! – فهمي هويدي

محافظ البنك المركزي المصري ذكرنا بقصة الطبيب الــذي طـمـأن أهــل المـريـض عـلـى نـجـاح الـجـراحـة التي أجراها، ثم أعرب عن أسفه لأنه مات.

ذلــك أن المــحــافــظ فـعـل نـفـس الــشــيء، إذ نـجـح فـي وقــف مــزايــدات تـجـار الـصـرافـة عـلـى الـــدولار، لكنه قتل السوق،
 وحين أراد أن يحاصر الذين يتلاعبون بالدولار فإنه جعل كل من أدخل حفنة دولارات إلى مصر يندم على «الحماقة» التي ارتكبها،

ليس ذلك فـحـسـب، لكنه أيـضـا وضـعـنـا أمــام مـفـارقـة محيرة، إذ في حين أن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي كان بـمـثـابـة دعــوة عـالـيـة الــصــوت لـجـذب الاسـتـثـمـارات والترحيب بها في مصر، فإن القرارات التي أصدرها مضت باتجاه معاكس تماما،
إذ كانت بمثابة حملة «ناجحة» لطرد الاستثمارات وتحذيرها من عواقب القدوم إلى مصر.

القصة متداولة على ألسنة كل من له علاقة بالسوق أو له حساب بالعملة الصعبة في البنوك المصرية، إذ ما عـاد يسمح له بسحب أو إيـداع أكثر من عشرة آلاف دولار في الـيـوم، بحد أقصى خمسين ألـف دولار في الشهر،
وهـذا الـقـرار أصـاب بالشلل كـل المستثمرين الـذيـن يـسـتـوردون أو يـصـدرون سلعا أو يحتاجون إلـى خـامـات أو ماكينات مـن الـخـارج، ويتعاملون في عــدة مـلايـين مـن الـــدولارات كـل شـهـر،
 كـمـا أنــه سبب مشكلة عـويـصـة لـكـل أصـحـاب المـصـالـح خصوصا المرضى الذين تتجاوز نفقات علاجهم الحدود المعلنة.
وفــي هــذه الـحـالـة فــإن بـعـض تـجـار الـعـمـلـة أصـبـحـوا يوفرون المبالغ المطلوبة للراغبين في الخارج، بعد دفع مقابلها المـصـري فـي داخــل الـبـلاد بـزيـادة ٥٪ على الأسـعـار المـقـررة.

وسمعت مـن بعض الأجـانـب الذين يمثلون شركات ومؤسسات بالخارج أن شركاتهم لا تعتمد هذا الأسلوب، وأن مثل تلك المقايضات يتعذر تسجيلها في حساباتهم المالية.

حـدثـنـي الـبـعـض أيــضــا عــن أزمـــة كــبــرى يـواجـهـهـا الـلـيـبـيـون والــســوريــون الـذيـن حـمـلـوا مـعـهـم أمـوالـهـم إلــى مـصـر، وقـــرروا أن يـسـتـقـروا فـيـهـا بـعـدمـا طـال أمـد الفوضى والاضـطـرابـات التي ضربت الاستقرار فـي بـلـديـهـم.

مـنـهـم مـن اتـجـه إلــى إقـامـة مـشـروعـات ومـنـهـم مـن عــزم عـلـى شــراء عــقــارات لـسـكـنـاهـم هم وعائلاتهم.
هؤلاء جميعا أصبحوا يواجهون أزمة لم تخطر لهم على بـال،
ذلك أنهم ما عـادوا قادرين على سحب الأمـوال التي جلبوها معهم إلـى مصر لتنفيذ مشروعاتهم أو شراء العقارات.

 وفي الوقت ذاته فإنهم ما عادوا قادرين على إخراجها من مصر إلى أي بلد آخر، وهو ما أثر بالسلب على فرص الاستثمار وعلى سـوق العقار الـذي أصـيـب بـالـركـود.

ومـا فعلوه أنهم جـمـدوا مشروعاتهم، ونصحوا غيرهم بـألا يـكـرروا الخطأ الـذي وقعوا فيه.

وفي الوقت الراهن على الأقل فـإن تركيا صــارت البلد الأكـثـر جـذبـا لـهـم، ذلـك أنها تستقبلهم بغير تأشيرات دخـول، وبغير قيود على إدخال الأموال أو إخراجها.

 أدري أن الـقـيـود الـتـي فرضها البنك المـركـزي أوقفت الزيادة في سعر الدولار، وقلصت إلى حد كبير الفرق بين سعره في محال الصرافة وسعره في البنوك.
وقد قـرأنـا تصريحا نشر على لسان السيد هشام رامـز محافظ البنك المـركـزي ذكـر فيه أنـه نجح في القضاء على السوق السوداء خلال ٤٨ ساعة،
وهو بالضبط ما فعله الطبيب سابق الذكر الذي تباهى بنجاح العملية الجراحية التي أجراها.

إلا أن السيد رامز لم يشر إلى ما جرى للسوق بعد ذلك وما أصـاب حركة الصرف وسـمـعـة الاسـتـثـمـار فـي مـصـر جــراء «الـنـجـاح» الـذي أحــرزه، فـي حـين أن الطبيب لـم يستطع أن يخفي أن مريضه مات بعد الجراحة!.

سـألـت مـن أعــرف مـن خـبـراء الاقـتـصـاد الـذيـن آثــروا عـدم ذكـر أسـمـائـهـم، فـكـان رأيـهـم أن تحليل المشكلة كان خطأ من البداية، وأن ما ترتب على ذلك جاء خطأ بدوره.

وفي تحليلهم أن الأزمة الاقتصادية ظهرت في مصر نتيجة تراجع مواردها من النقد الأجنبي بعد ثورة ٢٠١١إذ ضـربـت السياحة وتـوقـفـت الاسـتـثـمـارات الأجـنـبـيـة.

وإزاء شـح هـذه المــوارد فـإن الاقـتـصـاد لا يجد أمامه عـادة سـوى خيارين اثنين،
فإما أن يقلل مـن مـصـروفـاتـه أو أن يـسـعـى جـاهـدا لـزيـادة دخله عـن طـريـق تنشيط الـقـطـاع الإنـتـاجـي ورفــع كـفـاءتـه لـزيـادة تـصـديـره إلـى الـخـارج.

 لـكـن مـا حـدث أنـنـا لم نـتـخـذ خـطـوات جــادة عـلـى هـذيـن الـصـعـيـديـن.
إذ لا تـزال المـصـروفـات تحتاج إلـى ضبط ومـراجـعـة، كأن يـوقـف مـؤقـتـا اسـتـيـراد الـسـلـع الـكـمـالـيـة الـتـي تغرق الأسواق
(الأطعمة الفاخرة والأجبان التي لا تحصى أنواعها وأكلات القطط والكلاب نموذج لذلك)

كما أن القيود المفروضة لا تسمح بزيادة الإنتاج أو تحسينه، حـيـث يـتـعـذر ذلــك فــي ظــل الـقـيـود المــفــروضــة على شـراء الخامات والماكينات،
 الأمـر الـذي لا يشجع أي مستثمر على أن يطور إنتاجه لكي يجذب المستهلك المحلى والمستورد الأجنبي.

لست فـي وارد اقـتـراح الـحـلـول، لأنني لست مختصا بـالمـوضـوع، لكنني أنـقـل آراء أهـل الخبرة بالسوق أو بالاقتصاد، خصوصا، أنني صرت أسمع شكاواهم وانتقاداتهم حيثما ذهبت.

ما أثار انتباهي ليس فقط أن الــقــرارات الـتـي اتـخـذت لـم تـؤد إلـى ارتـبـاك الـسـوق وإصابته بالشلل، ولكن أيضا أنها لم تلق ما تستحق مـن دراســة وتـمـحـيـص مـن جـانـب أهــل الاخـتـصـاص والـخـبـرة قـبـل صــدورهــا.

وإذا صـح ذلــك فـإنـه ينقل المناقشة إلـى مستوى آخـر يثير قضية أكـبـر مثارة في المجال العام، تتمثل في التساؤل حول آلية إصدار مثل تلك القرارات التي تهم مستقبل السوق والبلد،
أين تناقش ومن يشارك في المناقشة وهل تؤهله خبرته لذلك أم لا؟
ـ إلى غير ذلك من الأسئلة التي باتت تتردد كثيرا في فضاءات الاقتصاد والسياسة دون أن يجيب عليها أحد!.

صحيفة الشرق القطريه الأحد 14 رجب 1436  3 مايو 2015

بانتظار حكم التاريخ - فهمي هويدي

أخيرا رأينا لهم صورا وتابعنا لهم أقوالا، في حين انهم طوال العشرين شهرا الماضية لم نكن نرى منهم سوى صور الجثث والأشلاء، ولا نسمع عنهم سوى أخبار القتل والقضاء على البؤر الإرهابية، ولا يذكرون إلا بحسبانهم تكفيريين في سيناء.

 أتحدث عن بدء محاكمة ٢١٣ شخصا من جماعة أنصار بيت المقدس، الذين عرفناهم في سيناء قبل ثورة ٢٠١١ مناهضين لإسرائيل ومخربين لخط الغاز المار بها.
ثم فوجئنا بهم بعد الثورة قد نقلوا عملياتهم إلى القاهرة والدلتا بوجه أخص.

 ومنذ ذلك الحين لم نعد نسمع عنهم إلا من خلال البيانات الرسمية التي ظلت تنقلها وسائل الإعلام، متحدثة عن مواجهة الشرطة والجيش.

 وربما تمكن البعض من متابعتهم من خلال الأشرطة التي ما برحوا يبثونها بين الحين والآخر، والتي سجلت عملياتهم التي دأبوا على القيام بها.

المعلومات الصحفية ظلت تحدثنا طوال الوقت عن قتلاهم. إلا أنه حين بدأت محاكمتهم يوم الأحد 3 مايو فإننا فوجئنا بأن ٢١٣ متهما من عناصر التنظيم متهمون في القضية.

وقد ظهرت صورهم في أغلب صحف الاثنين.
ومما نشرته صحيفة الأهرام يومذاك أن عناصر التنظيم اتهموا بارتكاب ٥٤ جريمة إرهابية تضمنت اغتيالات وقتل ٤٢ من ضباط وقوات الشرطة إضافة إلى قتل ١٥ مواطنا آخرين وترتبت على عملياتهم إصابة ٣٤٩ آخرين.

ومن بين ضحاياهم المقدم الشهيد محمد مبروك الشاهد الرئيس في قضية التخابر التي اتهم فيها الرئيس الأسبق محمد مرسي وآخرون من قيادات جماعة الإخوان،

كما كان من ضحاياهم اللواء محمد السعيد مدير مكتب وزير الداخلية والرائد محمد أبو شقرة والملازم أول محمد حسن والمجند على رمضان. والعميد طه زكي والعقيد طارق الطحاوي.

اتهم عناصر التنظيم أيضا بمحاولة اغتيال وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم، واحداث تفجيرات طالت منشآت أمنية بعدد من المحافظات المصرية في مقدمتها مباني مديريات أمن القاهرة والدقهلية وجنوب سيناء.
من بين التهم كذلك أنهم استهدفوا وقاموا بإتلاف بعض دور العبادة، ممثلة في المساجد والكنائس.

ورغم ان تلك الجرائم تظل مجرد اتهامات يفترض ان يحسم القضاء مصيرها، إلا أنها تثير انتباهنا من نواحٍ عدة أبرزها ما يلي:

يلفت النظر ابتداء كم العمليات ونوعيتها. فالتنظيم الذى يقوم بـ٥٤ عملية خلال عشرين شهرا أغلبها من الوزن الثقيل لا يستهان به، ولا بد ان تتوافر له قدرات تنظيمية عالية الكفاءة وامكانيات في التسليح ليست بسيطة.

إن مستوى الأداء بما كشف عنه من قدرات في التدريب والتنظيم والتخطيط كاشف عن اننا بصدد جيل جديد من المتطرفين.

ومن القرائن التي تؤيد ذلك تلك المعلومات التي تسربت عن انخراط بعض الضباط السابقين في عضويته،
 إذ أشارت المعلومات التي نشرت يوم الأحد الى ان بين المتهمين مقدم شرطة سابقا حصل على فرقة لمكافحة الإرهاب، فإن بعض المنابر الإعلامية الأخرى سربت معلومات مماثلة في وقت سابق.

 إذ نشر موقع «اليوم السابع» في ٢٠ يناير الماضي ان اثنين من ضباط الصاعقة السابقين اشتركا في محاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم.
وفي 6 فبراير ذكر الموقع ان الأمن يبحث عن ثلاثة أشخاص اشتركوا في تفجيرات العريش وعملية كرم القواديس، وان الثلاثة ضباط سابقون فصلوا من القوات المسلحة والشرطة.

وهو ما أكدته «البوابة نيوز» التي ذكرت في اليوم ذاته ان العقل المدبر لعملية العريش ضابط صاعقة فصل من الخدمة منذ سبع سنوات، وسبق له أن عمل في سيناء لمدة عشر سنوات.

وأشارت في هذا الصدد إلى ان عدد الذين فصلوا بسبب ميولهم «الجهادية» يصل عددهم إلى ١٠٥ من الضباط وأمناء الشرطة.

الملاحظة الثالثة ان عمليات التنظيم لها تركيزها الخاص على أفراد ومقرات الشرطة.
وهو ما دل عليه ذكر الادعاء ان المتهمين شاركوا في اغتيالات استهدفت ٤٢ من ضباط الشرطة،
إضافة إلى محاولتهم اغتيال وزير الداخلية السابق،
 كما قاموا بتفجير مباني مديريات أمن القاهرة والدقهلية.
 وهو ما يطرح احتمالا يحتاج إلى دراسة، كأن يكون التنظيم بعملياته تلك أراد أن يثأر من الشرطة ويصفي حسابات سابقة معها.

الملاحظة الرابعة المهمة ان أغلب العمليات التي اتهم تنظيم أنصار بيت المقدس بارتكابها في القضية المنظورة نسبت وقت وقوعها إلى الإخوان.
 المثل الأشهر على ذلك ما حدث عند تفجير مبنى مديرية أمن الدقهلية في ٢٤ ديسمبر عام ٢٠١٣.
ذلك ان مجلس الوزراء عقد اجتماعا في اليوم التالي مباشرة (٢٥ ديسمبر) أعلن في أعقابه الدكتور حسام عيسى نائب رئيس الوزراء آنذاك أن المجلس اعتبر الإخوان جماعة إرهابية بسبب وقوفها وراء تفجير مديرية أمن الدقهلية.

الملاحظة الأخيرة تنبهنا إلى ان النشر عن العمليات الإرهابية التي تمت في مصر طوال العشرين شهرا الماضية انطلق من منظور تعبوي، وظل محكوما بحسابات الصراع السياسي،

 ذلك ان مصادره لم تتجاوز بيانات الأجهزة الأمنية وتسريبات إدارات التوجيه المعنوي وتصريحات المصادر السيادية.

وذلك كله يمكن ان يخضع للمراجعة والتصويب حين يسمع رأي الأطراف الأخرى، أعني حين يعرض الأمر على القضاء فيوجه الادعاء ويرد المحامون ويتحدث المتهمون والشهود وتفتح الأحراز.

حينذاك ستتوافر فرصة أفضل نسبيا للتعرف على الحقائق كما هي، قبل ان تخضع للتلوين والتلفيق، وهو ما قد يسمح لنا ان نعرف على وجه التقريب من فعل ماذا ومن الظالم ومن المظلوم.

وأيا كان رأينا في حكم القضاء فإن حكم التاريخ يظل أكثر نزاهة وإنصافا.

صحيفة السبيل الاردنيه الخميس 18 رجب 1436  7 مايو 2015