سمعة مصر عند المعبر - فهمي هويدي

أيهما يسيء إلى سمعة مصر أكثر:
 أن تستمر في إغلاق معبر رفح بما يحكم الحصار حول فلسطينيي قطاع غزة،
 أم أن يشكو بعض الفلسطينيين من معاناتهم جراء ذلك؟

هذا السؤال له قصة ألخصها فيما يلي:

في إحدى الحلقات الأخيرة لبرنامج «اكتشاف المواهب» وقبل أن تقدم فرقة التخت الشرقي الفلسطينية إسهامها تحدث بعض الصبية أعضاء الفرقة عن معاناتهم وهم يحاولون الوصول من غزة إلى بيروت.
ومما ذكروه أنهم ذهبوا إلى معبر رفح ثلاث مرات، لكنهم فشلوا في عبوره بسبب إغلاقه في وجه الفلسطينيين. إلا أنهم نجحوا في المرة الرابعة حين وجدوا المعبر مفتوحا، فاستقلوا سيارة حملتهم في رحلة عذاب أخرى إلى مطار القاهرة. ومن هناك استقلوا الطائرة إلى بيروت.

أفاضت الصحف في وصف انبهار الجميع بأداء الفرقة وتأثرهم البالغ الذي دفع كثيرين إلى البكاء حين شاهدوا الصبية الخمسة وهم يغنون ويعزفون.

ومما نشرته جريدة الشروق في 15/1 أنهم استحقوا بجدارة المنافسة على جوائز البرنامج، وأن أعضاء لجنة التحكيم أكدوا أهمية دعم الفرقة باعتبارها تجسد الصمود والتحدي والحضور الفلسطيني.

 إلا أن ما استوقفتني في التقرير المنشور عن حلقة البرنامج الذي تقدمه إحدى القنوات الخاصة عبارة ذكرت أن بعض الأصوات «اتهمت البرنامج بالنيل من سمعة مصر بالحديث عن إغلاق المعبر أمام مرور الفلسطينيين أثناء القصف الإسرائيلي لغزة، الذي تسبب في احتجاز الفرقة على الحدود».

لا أعرف مدى دقة الجملة الأخيرة، لكنني اعترف أن مضمونها الذي لا أستبعده صرفني عن متابعة العرض البديع والمؤثر الذي قدمته الفرقة.
 إذ جعلني أطرح السؤال الذي بدأت به الكلام وفي خلفيته قلت إنه إذا كان إغلاق المعبر أمرا سيئا ومخجلا،
 فهل يكون الموقف الصحيح أن نتستر عليه ونخفيه بما يرتبه ذلك من استمرار لمعاناة أهل القطاع وتعذيبهم،
 أم أن ننبه إلى الخطأ الحاصل جراء ذلك لتصحيحه بما يلبي المصالح ويمتص مشاعر السخط والغضب؟

إن المرء لا يستطيع أن يخفي دهشته إزاء الموقف العربي ـ دعك من الدولي ـ من قطاع غزة.

ذلك أن نموذج البسالة والصمود الذي قدمه أهل غزة في مواجهة مخططات العدوان والحصار يستحق الحفاوة والاعتزاز. ليس من جانب الفلسطينيين وحدهم، وإنما من العرب أجمعين.

ولكن الأمر المستغرب حقا أن ذلك الأداء لم ينل ما يستحقه من تقدير فحسب، ولا قوبل بالصمت فحسب، وإنما بدا وكأن القطاع يحاسب ويعاقب عليه.

على الأقل فذلك ما نلمسه الآن في مختلف الضغوط وصور التنكيل، التي باتت تمارس ضد القطاع. ليس فقط من جانب إسرائيل التي نفهم موقفها، ولكن من جانب الأشقاء الذين يستعصى فهم موقفهم.

 في هذا الصدد فإنني أسجل ثلاث ملاحظات للتفكير فيها هي:

إن التعبئة الإعلامية والسياسية المضادة حققت نجاحا مشهودا في تسميم العلاقة بين المصريين والفلسطينيين عموما وأهل غزة بوجه أخص. حتى أصبح عدد غير قليل من المصريين يستشعرون حساسية وامتعاضا حين يتطرق الحديث إلى ذلك الملف، الذي بات مسكونا بالتوجس وسوء الظن.
وهو ما دفعني إلى القول مازحا ومحسورا ذات مرة أن مصر وقعت معاهدة سلام مع الإسرائيليين، لكن مثل تلك المعاهدة لم توقع مع الفلسطينيين.
كما دعوت في مقام آخر إلى فض الاشتباك بين الطرفين.

أدري أن سجل الشكوك والهواجس تحول إلى اتهامات في حملة التعبئة المضادة حتى تعامل معها البعض باعتبارها مسلمات وحقائق ثابتة.

 ومن المؤسف أننا لم نلمس جهدا نزيها ومحايدا حاول تحري الحقيقة في تلك الاتهامات.

وكانت النتيجة أن الادعاءات تحولت إلى حقائق، كانت أساسا لمحاكمات قامت بها المنابر الإعلامية، التي أصدرت أحكامها ونفذتها دون دفاع أو نقض أو إبرام.

الملاحظة الثانية أننا صرنا نسمع في التصريحات الرسمية عن انفراجة كبيرة وواسعة في القضية الفلسطينية من خلال الاتصالات الدبلوماسية والمؤسسات الدولية.

وكان اعتراف بعض الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية أحد العوامل التي شجعت ذلك الاتجاه.
وهو ما يرفع من منسوب الدهشة عندي، لأننا ونحن نتحدث عن الانفراجة الكبيرة نقف عاجزين عن إنجاز تحقيق متواضع يمثل انفراجة متواضعة وصغيرة تتمثل في فتح معبر رفح، الذي هو المنفذ الوحيد للفلسطينيين الذي لا يمر بإسرائيل ويصلهم بالعالم الخارجي. وهو ما وضعنا أمام مفارقة لافتة للنظر.

ذلك أن التصريحات الرسمية باتت تتحدث عن حلول تمثل الحد الأقصى، في حين أنها تمتنع عن اتخاذ خطوة مثل فتح معبر رفح. تدور في فلك الحد الأدنى. من حيث إنها تمس إنسانية البشر ومعايشهم وليس الدولة بحدودها ومسؤولياتها.

الثالثة إنني لم أفهم كيف يمكن أن يهدد فتح معبر رفح الأمن القومي المصري. وهي المقولة التي ما برحت تتردد في الحوارات المتعلقة بالموضوع وفي التعليقات والتقارير الصحفية.
إذ ما أعلمه أنه ما من شخص يجتاز معبر رفح إلا بعد أن يكون اسمه قد تمت مراجعته. وحالته تم فحصها وحقائبه تم تفتيشها،

 الأمر الذي يؤكد أنه في مروره لا بد أن يكون قد تم فحصه جيدا من جانب ممثلي الجهات الأمنية. وهذه الاحتياطات كفيلة بطمأنة المسؤولين إلى أن المعبر ليس مصدرا لتهديد أمن مصر من أي باب.

ما أسمعه أن المسؤولين المصريين يكتفون في كل مناقشة بالإحالة إلى مقتضيات الأمن القومي، ويعتبرون أن إطلاق العبارة كافٍ لإنهاء الحديث في الموضوع، وهو ما يمكن أن يكون مفهوما إذا تعلق الأمر بمصلحة طرف واحد، ولكن حين يكون هناك طرف آخر فمن حقه أن يعرف إجابة السؤال كيف؟
 كما أن من حقه أن يرد على الحجج التي تساق لتبرير الإغلاق.

الأكثر مدعاة للدهشة أن يقول قائل ان الرئيس محمود عباس يؤيد الإغلاق ويحث عليه لتصفية حسابه مع حماس.

وذلك عذر أقبح من الذنب. ثم إنه ينقل المناقشة إلى مستوى العبث، لأنني لا أتخيل رئيسا يعلن الحرب على شعبه بهذه الطريقة، إلا إذا كان سائرا على طريق «ممانعة» الرئيس السوري بشار الأسد.

صحيفة السبيل الأردنيه الاثنين 28 ربيع أول 1436 – 19 يناير 2015

في أن القيادات لا تصنع - فهمي هويدي

الصدفة وحدها جمعت بين الخبرين يوم الثلاثاء الماضي (20/1)،
إذ أبرزت الصحف المصرية على صفحاتها الأولى خبر اعتزام الرئاسة إطلاق برنامج لتأهيل الشباب لتولي المناصب القيادية.
وعلى صفحة داخلية نشر بعضها خبر فصل ستة من طلاب كلية الصيدلة لمدة شهر لأنهم أعدوا لوحة إرشادية لزملائهم دون إذن من الإدارة.

 الخبر الأول تم إبرازه لأن مصدره كان الرئيس عبدالفتاح السيسي، الذي صرح به أثناء لقائه مع الصحفيين المصريين الذين رافقوه في رحلته إلى دولة الإمارات.
 ثم ان فكرته جديدة وموضوعه مهم، خصوصا أنه يأتي ضمن محالات علاج الفجوة الحاصلة بين الشباب والنظام القائم.

 إلا أن الخبر الصغير الذي نشر على إحدى الصفحات الداخلية بدا وكأنه يستدعي الواقع ويسلط الضوء على أحد جوانب الأزمة.

ذلك أننا إذا وضعنا الخبرين جنبا إلى جنب فإن ذلك يثير السؤال التالي:
كيف تفكر في تأهيل الشباب للمناصب القيادية، في حين أننا نمارس بحقهم قهرا جعل إدارة كلية الصيدلة تقرر فصل ستة من طلابها لا لأسباب سياسية ولا لأنهم أحدثوا أي نوع من الشغب، ولكن لمجرد أنهم تطوعوا بإعداد لوحة إرشادية لزملائهم دون أن يحصلوا على موافقة إدارة الكلية (المقصود هو موافقة الجهات الأمنية).

إزاء هذه المفارقة وجدت ان الأمر يستحق مناقشة من زاويتين.
واحدة تتعلق بفكرة البرنامج سابق الذكر،
أما الزاوية الثانية فتتعلق بطبيعة البيئة التي يتعين توفيرها لاستدعاء دور الشباب وترشيحهم للمناصب القيادية.

لقد بحثت فيما نشرته الصحف المصرية عن شيء من التفصيل بخصوص البرنامج المقترح، فلم أجد أي معلومة مفيدة في هذا الصدد.

لم أكن بحاجة إلى من يدلني على حسن النية الكامن وراء الفكرة، ولا إلى من يقنعني بأن هناك أزمة على ذلك الصعيد يراد احتواؤها، إلا أنني لا أخفي انني لم استرح إلى الفكرة من حيث المبدأ.

أدري أن من حق أي أحد أن يعترض على كلامي محتجا بأنني انتقد مبادرة غامضة لا يعرف محتواها، وسوف أؤيده في ذلك لو أنني ناقشت شيئا في البرنامج المقترح.

غير أن مناقشتي لا علاقة لها بمضمون البرنامج ولا بالأهداف الايجابية التي يتوخاها.

 ذلك ان تحفظي الأساسي ينصب على مبدأ قيام السلطة بكل شيء في البلد وإلغاء دور المجتمع في ذلك.
وهو ما يجسد مفارقة نلاحظها في المجال العام خلاصتها اننا في الخطاب السياسي لا نكف عن الإشادة بالشعب العظيم الذي نكيل له المدائح ونعدد شمائله وأفضاله في مجالات الصمود والتضحية والفداء، إلى جانب عراقته وتاريخه وحضارته التي تمتد لكذا ألف سنة.

وفي حين نتغنى بالشعب المعلم، فإننا في لحظة القرار وساعة الجد، ندير ظهرنا له ونتوجه إلى السلطة، التي هي في وعينا الجمعي القوة الأعظم والمعلم الحقيقي.

 لدينا في تأييد تلك الفكرة شواهد عدة تمتد جذورها إلى العصر الفرعوني الذي في ظله وصف الفرعون بأنه الملك الإله، وبأنه واهب الحياة والقابض على مفاتيح الموت.

القضية التي نحن بصددها شاهد آخر.
ذلك أن ثمة مشكلة في علاقة السلطة بالشباب، كما ان هناك عقبات ورواسب عدة قطعت الطريق على تطلعاتهم، وأقنعتهم بأن آمالهم ضعيفة في المستقبل الذي بدا انه محجوز لغيرهم.

وفي مواجهة المشكلة فإن السلطة هي التي تعتني بالأمر وتطرح مبادرة الحل.
وفي وقت سابق استقر في وعينا ان السلطة هي المسؤولة عن الإنتاج والخدمات، وهي التي تتولى توزيع الشباب على الجامعات وتقوم بتشغيلهم بعد تخرجهم، كل ذلك والمجتمع واقف ــ أو نائم ــ يتفرج ودوره مقصور على الاستقبال بعدما جرد من قدرته على الإرسال.

في تنزيل هذه الفكرة على موضوعنا أرجو أن يكون واضحا أنني لا أناقش المبادرة الرئاسية لكنني أتحدث عن منطلقها وحدود الدور الذي تقوم به الرئاسة، والدور المغيب الذي يفترض أن يقوم به المجتمع.

وذلك ينقلنا إلى الزاوية الثانية التي أردت أن أعرضها في مناقشة الموضوع.

سؤالان يطرحان نفسيهما في هذا الصدد.
 الأول هو: هل نعاني أزمة في ندرة القيادة الشبابية أم مشكلتنا أكبر وأعم بما يدعونا إلى القول بأن لدينا أزمة في القيادات السياسية بشكل عام.

السؤال الثاني هو: هل توفير تلك القيادات يتطلب إعداد برنامج تأهيلي تتقدم به رئاسة الدولة أم أنه يتطلب بيئة مواتية لإفراز تلك القيادات؟

ردي بالإيجاب على السؤال الأول. تشهد بذلك الصور التي نشرت للرئيس السيسي في لقاءاته الأخيرة بقادة الأحزاب السياسية الذين لا نعرف أسماء أغلبهم.
وكان أفضل تقييم لدورهم هو ما أقدم عليه زميلنا رسام الكاريكاتير عمرو سليم في جريدة «المصري اليوم» حين قدم لنا ذات صباح مساحة بيضاء خالية من أى رسم، وكتب في ركن منها أنها صورة للأحزاب المدنية في مصر.

ردى على السؤال الثاني أن القيادات الحقيقية هي التي يفرزها المجتمع وليست تلك التي تؤهلها أو تشكلها السلطة.
ذلك أنه حين تغيب الديمقراطية أو تزور فإن المجتمع يصاب تلقائيا بالعقم، بحيث يحتل المنافقون والمتسلقون والمحاسيب مواقع القيادة التي تصبح حكرا عليهم،
من ثم فإذا كنا جادين حقا في البحث عن قيادات شريكة في النهوض بالحاضر وفي تأمين المستقبل فلذلك باب واحد لا بديل عنه. هو إطلاق الحريات العامة والالتزام بقيم وآليات الديمقراطية الحقيقية.

فذلك وحده هو ما يكسر الجمود ويعالج العقم السياسي، ويولد الحماس والحراك الذي تشيعه الانتخابات الحرة في مختلف مجالات العمل العام، في الأحزاب والمحليات والنقابات والمنظمات الأهلية.
وتلك هي البيئة المواتية التي تعبر عن الحيوية السياسية،
ومن ثم تستنبت القيادات وتستدعيها،

 إذ في هذه الحالة فقط ستبرز القيادات الشبابية وغير الشبابية.

 أما إذا ما استمر المشهد المتناقض الذي أشرت إليه في بداية الكلام، فهو يعني أن أوان الكلام الجاد في الموضوع لم يحن بعد.
........
صحيفة السبيل الأردنيه الخميس 2 ربيع آخر 1436 – 21 يناير 2015

السؤال الغلط - فهمي هويدي

اعترضت على السؤال: ماذا بقي من ثورة 25 يناير 2011؟
إذ كان ردي أنه السؤال الغلط، لأن أوان حصر النتائج لم يحن بعد.

 إذ الظروف في مصر أكثر تعقيدا مما يظن كثيرون.
من ناحية لأن الثورة ذاتها لم تكتمل وشعاراتها في الحرية والكرامة الإنسانية لاتزال معلقة في الفضاء ولم تنزل إلى الأرض..
ومن ناحية ثانية، لأن طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي جعلت من التغيير مهمة بالغة الصعوبة، لا سبيل إلى تحقيقه إلا بعد جولات من الصراع تستغرق أجلا ليس بالقصير،
وما مرت به مصر خلال السنوات الأربع التي خلت لم يكن سوى أولى تلك الجولات.

إذ بات الاتفاق منعقدا على أن الثورة أسقطت رأس النظام السابق في حين بقي جسم النظام قائما وراسخا لم يتزحرح.

وخلال تلك السنوات الأربع لم يثبت الجسم وجوده فحسب، ولكنه فرض رؤيته أيضا.

ومن المفارقات ذات الدلالة في هذا الصدد أنه حين شكلت لجنتان برئاسة اثنين من أكبر قضاة مصر لتقصي حقائق أحداث الثورة،
 فإن جسم النظام نجح في إخفاء معالم التقريرين الذين خلصت إليهما اللجنتان، لأنهما كشفا عن حقيقة الدور الذي قامت به أدواته وأصابعه.

وبلغ النجاح ذروته حين نجح الجسم المذكور في أن يفرض رؤيته في صياغة الأحداث التي وقعت، لكى يطمس معالم دوره الذي تكشفت بعض ملامحه.

 أتحدث عن تقرير تقصي حقائق أحداث الثورة (الـ18 يوما الأولى) الذي أعدته في عام 2011 اللجنة التي رأسها المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى
والتقرير الذي أعدته عن فترة حكم المجلس العسكرى الذي أعدته في عام 2013 لجنة رأسها المستشار عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض،
هذان التقريران دفنا ولم يجرؤ أحد على نشرهما حتى الآن.

 ولولا خلاصة في 40 صفحة وزعتها اللجنة الأولى وظهرت على الإنترنت بعدما سلمت اللجنة تقريرها إلى رئاسة الدولة، لما تسرب إلينا شيء من ذلك التقرير الخطير الذي أدان الشرطة في قتل المتظاهرين، وهو السجل الذي جرى محوه بالكامل وتمت تبرئة الشرطة وقياداتها من كل ما نسب إليها.

أما الرسالة الأكثر وضوحا وبلاغة في تأييد ما ذكرته، فقد تمثلت في تبرئة مبارك ورجاله، وإطلاق ابن الرئيس الأسبق، حيث كانت براءة هؤلاء جميعا مع اقتراب الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة، بمثابة إدانة ضمنية للذين أزاحوا أولئك«الأبرياء» من مناصبهم، إلى جانب كونها إعلانا عن ثبات النظام سابق الذكر وتعافيه.

هذا الذي حدث لم يكن مفاجئا تماما، لأنه بمثابة إفراز طبيعي للواقع الذي أقامه ورعاه نظام مبارك.

ذلك أنه خلف لنا واقعا منزوع العافية، في مواجهة سلطة تجذرت وتجبرت بحيث لم تترك للمجتمع طاقة يستطيع أن يدافع بها عن نفسه.
 لا قوى سياسية ولا مؤسسات مستقلة رسمية كانت أم أهلية، ولا نقابات فاعلة ولا إعلام حر،

وحين جرى إلحاق كل هؤلاء بالسلطة فإن ذلك استصحب إلحاق النخبة معها ــ إلا من رحم ربك ــ وهو ما أفسد البيئة السياسية وأحدث في البلد فراغا سياسيا حائلا مازلنا نعاني منه إلى الآن.
يساعدنا على استيعاب المشهد على نحو أفضل تحليل وقعت عليه كتبه الباحث السورى حسين عبدالعزيز ونشرته جريدة الحياة اللندنية في (7/1/2015)،
 وكان يقارن فيه بين التجربة الثورية في كل من تونس وسوريا،

وقد لجأ فيه إلى المقارنة بين الثورتين الإنجليزية والفرنسية،
 حيث كانت الأولى سلمية وسريعة، اقتصرت على النخبة.
 إذ كان طرفاها البرلمان في جهة وويليام الثالث الحاكم الأعلى لهولندا من جهة ثانية.

 فقد بدأت الثورة عام 1688 بعزل الملك جيمس الثاني وتنصيب ابنته ماري وزوجها وليام أورانج، وانتهت في العام الذي يليه بإعلان الحقوق..
وهذه السرعة والتكلفة البسيطة للثورة مرتبطة بكونها نتاج مسار ثوري طويل ومنقطع يعود إلى ما قبل «الماجنا كارتا» عام 1215
 ثم الحروب وحركات الإصلاح الديني ثم الحرب الأهلية (1642 ــ 1651)

هذا المسار الثورى الطويل وما رافقه من تطور فكري هو الذي حال دون اتخاذ الثورة الإنجليزية مسارا عنيفا على غرار الجارة فرنسا.

بالتوازى مع ذلك ــ أضاف الكاتب ــ كان التنوير الإنجليزي متسامحا مع أنواع كثيرة من الإيمان والكفر،
ولم يكن هناك نزاع بين السلطات المدنية والدينية،
ولم تكن هناك حاجة للإطاحة بالدين لأنه لم يكن هناك بابا ولا محاكم تفتيش ولا كهنوت محتقر ولا كنيسة مضطهدة.

 لذا مال الإنجليز إلى الحلول الوسط وهو الميل الذي يعني في الشؤون الاجتماعية إيثار الإصلاح على الثورة كما يقول برتراند راسل.

اختلف الموقف في فرنسا بسبب قوة الملكية المطلقة التي لم تقم مؤسسات قابلة للحياة ولا طبقة نبلاء وبرلمان تستطيع مواجهة الملك الذي أخذ في تقوية البورجوازية الصاعدة لمواجهة الإقطاع،
 لكن الذي جرى مع الوقت ان هذه البورجوازية بدأت تتسم بسمات الإقطاع.

في الوقت ذاته، فشلت الطبقة الارستقراطية في الاندماج بالرأسمالية الوليدة والتحول إلى التجارة الزراعية
واستعاضت عن هذا العجز بخلق ترتيبات إقطاعية لاستخراج الفائض الاقتصادي من الفلاحين والقضاء على ما تبقى من امتيازاتهم،
الأمر الذي حال دون التوصل إلى حل يرضي الفلاحين ويجنب البلاد العنف كما حدث في إنجلترا.

هذا الوضع الراديكالي انعكس على مستوى البنية الفوقية، فالفلاسفة الفرنسيون الذين كانوا غير فاعلين في الحياة السياسية بسبب الاستبداد الملكي، طوروا أيديولوجيات مثالية مفارقة للواقع باسم العقل والحقوق والطبيعة والحرية والمساواة.. إلخ،

وهذه الأيديولوجيات طبعت التنوير الفرنسي بطابعها:
فولتير دعا إلى إعلان الحرب على الكنيسة،
وبيدرو دعا إلى قتل الملك،
وباسم هذه الأيديولوجيات وغيرها كشفت الثورة عن أنيابها وأنجبت عهد الرعب الفرنسي أثناء الثورة مع روبسبير واليعاقبة.

أسقط الكاتب هذه الخلفية على الواقع في كل من تونس وسوريا.
واعتبر أن التغيير السلمي الذي حدث في تونس له علاقة بأسس الدولة الحديثة التي أرساها بورقيبة،
 وقامت في ظلها مؤسسات قوية ومجتمع مدني فاعل وطبقة وسطى تنويرية لها مصلحة في التغيير الديمقراطي.
وهو ما يضع تونس في مربع الخبرة البريطانية.

 ولأن ما حدث في سوريا كان العكس تماما، فقد اعتبرها سائرة على درب النموذج الفرنسي.
رغم أن الفرق كبير في التفاصيل بين الخبرة السورية والمصرية خصوصا في مدى العنف والقمع، إلا أنني أزعم أنه فرق في الدرجة وليس في النوع.
 حيث التشابه قائم بين التجربتين في تغييب الديمقراطية وإلغاء دور المؤسسات وتأمين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
 وهي مواصفات من شأنها إطالة أمد الصراع لإقامة المجتمع الديمقراطي المنشود في مصر.

وبعدما تم دفع ضريبة الدماء بكلفتها العالية، فإننا نسأل الله أن يلطف بنا في الشق المتبقي؛ بحيث لا تحذو الثورة الفرنسية التي لم تستقر أوضاعها إلا بعد مئة عام،

ولايزال لنا في الموضوع كلام آخر.
.....
صحيفة السبيل الأردنيه الأحد 5 ربيع آخر 1436 – 25 يناير 2015

تفكير في خبر سار - فهمي هويدي

الصحفيون الذين رافقوا الرئيس عبدالفتاح السيسي في رحلته إلى دولة الإمارات نقلوا عنه بعض الأخبار المهمة،
 كان المفرح منها قوله إنه سيتم الإفراج قريبا عن مجموعة من الشباب الذين ألقي القبض عليهم دون ذنب أو نسبت إليهم اتهامات بسيطة.
وهي خطوة طيبة لا ريب، تستدعي مجموعة من الملاحظات ألخصها فيما يلي:

إن ذلك الخبر السار سمعناه من الرئيس مرتين على الأقل خلال الأشهر الأخيرة.
ورغم أنه لم يحدد موعدا لإطلاق سراح أولئك الشبان.
 إلا أنه قال إنه طلب من وزير الداخلية دراسة حالات المحتجزين تمهيدا للإفراج عنهم.

 وربما كان الجديد هذه المرة أنه وعد بأن يتم ذلك قبل حلول الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة في 25 يناير،
 ولا أظن أنه أراد أن تتم تلك الخطوة بمناسبة عيد الشرطة التي تحل في نفس اليوم، خصوصا أن الشرطة هي من اعتقلتهم وألقتهم في السجون طوال الأشهر الماضية.

وأرجو أن يكون حظ أولئك الشبان أفضل من مصير قانون التظاهر الذي رفضه الجميع في مصر، في إجماع نادر،

 وقيل لنا إن الرئيس وافق على تعديله، لكن هذه الخطوة تأجلت لأن المؤسسة الأمنية ارتأت أن توقيت التعديل غير مناسب،
 وهي معلومة أكد صحتها أن ذلك الكلام لم يصوب، وأن التعديل المنشود لم يتم ولايزال مؤجلا إلى توقيت غير معلوم.

إنني أفهم أن قرار إطلاق سراح بعض المسجونين في بعض المناسبات والأعياد تقليد أريد به إشاعة الفرحة ومكافأة حسني السير والسلوك منهم من خلال الإفراج عنهم قبل انتهاء مدة العقوبة المقررة.

ومن هذه الزاوية يصبح انتظار المناسبة مفهوما، إلا أن وضع المظلومين الذين اعتقلوا بغير ذنب أو ارتكبوا ذنبا يمكن التسامح معه، هؤلاء وضعهم مختلف تماما.

حيث لا مبرر لانتظار المناسبة أو ترقبها، لأن كل يوم يقضونه في السجن هو تكريس لمظلوميتهم وإمعان في التنكيل بهم.

إن الكلام يعني أن الرئيس يعلم أن شبانا تم اعتقالهم منذ عدة أشهر بغير ذنب جنوه.
وأن هناك آخرين تم اعتقالهم لأسباب تافهة ما كانت تستحق أن يذلوا وأن تضيع عليهم فرص الانتظام في دراستهم جراءها.

وإذا كان لنا أن ننتقد التأخير في فرز حالاتهم وإطلاق سراحهم، فإن السؤال الأهم والأجدر بالبحث هو
لماذا اعتقلتهم الشرطة أصلا،
ولماذا قررت النيابة استمرار حبسهم ثم تمديد ذلك الحبس مرة بعد مرة؟

والمشهد من هذه الزاوية يفتح الباب واسعا لتساؤلات أخرى تبعث على الحيرة والبلبلة تكشف عن عورات تسيء إلى النظام القائم ولا تشرفه.

هذه التساؤلات تتعلق بضوابط القبض العشوائي، وحدود الحبس الاحتياطي الذي عدل القانون لإطلاق مدته، بحيث أصبح غطاء قانونيا للاعتقال والتعسف في التنكيل بالخلق، تشمل تلك التساؤلات أيضا مدى استقلال النيابة وعلاقتها بجهاز الأمن الوطني، بعدما كشفت الممارسة عن أن تحديد الحبس يتم استنادا إلى توجيهات جهاز الأمن التي ينفذها وكلاء النيابة دون مناقشة.

شيء جيد أن يتقرر الإفراج عن الشباب الذين اعتقلوا ظلما خلال الفترة الماضية. ولكن إذا كانت تلك الخطوة تتم في إطار رفع الظلم عنهم وتخفيف التوتر الحاصل في محيطهم، فإن ذلك يسوغ لنا أن نلفت الانتباه إلى وجه آخر للمشكلة،

ذلك أن حملة الاعتقالات العشوائية التي كان الشباب من ضحاياها طالت غيرهم أيضا. أعني أن الذين دفعوا بهم إلى عربات الأمن أثناء المظاهرات مثلا لم يدققوا في هوياتهم ولا شغلوا بأعمارهم.
وهو ما يسوغ لنا أن نتساءل عن مصير مظلومين آخرين من غير الشباب جرى التنكيل بهم ودمرت حياتهم وأسرهم بسبب احتجازهم في ظروف مماثلة تماما لتلك التي تعرض لها الشباب المنوي الإفراج عنهم.

إذا جاز لي أن أكون أكثر صراحة فإنني أخشى أن يكون وراء الاتجاه إلى الإفراج عن الشباب المظلومين سبب آخر غير إنصافهم ورفع المظلومية عنهم. كأن يكون الهدف من الرسالة هو استرضاؤهم في ظروف اقتراب ذكرى الثورة والانتخابات البرلمانية.

 وقد عن لي ذلك الخاطر حين لاحظت عدم إشارة التصريح سابق الذكر إلى غير الشباب. وكأن الظلم كان من نصيب الأولين وحدهم، يؤيد الظن الذي ذهبت إليه أن الصوت العالي لعناصر النخبة الموالية يمضي في ذات الاتجاه.

 أى أنهم يطالبون فقط بالإفراج عن الشبان الذين ألقي القبض عليهم جراء دعوتهم للاحتجاج على قانون التظاهر، وهو مطلب مشروع لا ريب ينبغي أن يصطف حوله الوطنيون في مصر،

ولكن المطلب الأخلاقي الأكثر مشروعية أن يصطف أصحاب الضمائر الحية وراء الدعوة إلى إقامة العدل الذي يعمم الإنصاف على كل المظلومين بغض النظر عن هوياتهم وأعمارهم.

الملاحظة الأخيرة أنني أخشى أن يفهم من تصريح الرئيس السيسي أنه هو من سيصدر قرار الإفراج المنتظر، ليس فقط لأنه لا يملك هذه السلطة من الناحية القانونية، وإنما أيضا لكي لا يظن أنه هو من أصدر أوامر الاعتقال.

 ذلك أن الرئيس له الحق في أن يعفو عن بعض الذين صدرت ضدهم أحكام بالسجن،
 أما الذين لايزالون تحت التحقيق ولم تصدر بحقهم أية أحكام فمصيرهم متروك للقضاء الذي له وسائله في تقدير القرار المناسب.

وفي القضايا السياسية التي هي موضوعنا، فإنه يسترشد برأي الأجهزة الأمنية التي لا تستطيع تجاهل توجيهات الرئيس.غدا.. لنا كلام آخر مع بقية تصريحات الرئيس.
....................
صحيفة السبيل الأردنيه الأربعاء 1 ربيع آخر 1436  21 يناير 2015

المحكمة الجنائية الدولية هل تنصف الفلسطينيين

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
أخيراً وقع رئيس السلطة الفلسطينية مرسوم انضمام دولة فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية، ضمن عشرين منظمة دولية أخرى، بالإضافة إلى التوقيع على ميثاق روما، وذلك في خطوةٍ بديلة عن رفض مجلس الأمن الدولي القرار العربي المقترح بالاعتراف بدولة فلسطين المحتلة، ضمن حدود الرابع من حزيران لعام 1967، وفرض الانسحاب الإسرائيلي منها خلال مدةٍ أقصاها ثلاثة سنوات.
إلا أن القرار سقط دون أن تلجأ الولايات المتحدة الأمريكية -كما كان متوقعاً- إلى استخدام حق النقض الفيتو ضد القرار في حال لو أنه حصل على أصوات تسعة أعضاء أو أكثر، إلا أن دولة نيجيريا فاجئت الجميع وهي الدولة الأفريقية المسلمة، الموالية تاريخياً لفلسطين ومختلف القضايا العربية، وكفت بامتناعها عن التصويت واشنطن الحرج الدولي، الذي ما كان ليعنيها أبداً لو أنها اضطرت لاستخدامه.
قد يستخف البعض بهذا المرسوم وقد ينتقده ويعترض عليه، ويرى أنه عديم الجدوى ولا يخدم القضية الفلسطينية ولا ينفع أهلها، وأنه ليس إلا مضيعةً للوقت، وضحكاً على لحى الشعب الفلسطيني، الذي لا يتوقع من المنظمات الدولية نفعاً، ولا يرجو منها خيراً، وهي التي أضرته وألحقت به الأذى، واعترفت بالكيان الصهيوني وشرعت وجوده، وغطت جرائمه وحمت قيادته، وحصنته طويلاً من الملاحقات القانونية والقضائية، وجعلته بمنأى ومأمنٍ من سلطة القانون الدولي، الذي يطال الصغار ويستثني الكبار، ويحاسب الضعفاء ويجبن عن مواجهة الأقوياء، ويحمي الظالم ويقتص من المظلوم، فكيف لهذه المنظمات التي صاغتها القوة، وشكلها المنتصرون، وصاغت أنظمتها الدول الكبرى على حساب الدول المهزومة والمستسلمة.
الفلسطينيون في حاجةٍ ماسةٍ إلى كل أداةٍ ووسيلة لمواجهة المحتل الصهيوني، الذي لا يتأخر عن استخدام كل وسائله، واستغلال كل طاقاته، واستنفاذ أقصى جهوده، وتوظيف كل قدراته وامكانياته، وتجنيد سكانه ومستوطنيه، وأعوانهم وأنصارهم، بالتعاون مع كل القوى، والتنسيق مع مختلف الدول والمنظمات، التي لا تألوا جهداً في مساعدته، ولا تتأخر عن نصرته، ولا تمتنع عن مساندته والوقوف معه، بل تتبنى مواقفه، وتدافع عن سياسته، وتدين وتهاجم من يقاومه ويصد عدوانه، ويرفض احتلاله، ويثور على ممارساته، ويعترض على سياساته، في مخالفةٍ للأخلاق والقيم، وتعارضٍ مع المفاهيم الإنسانية والقوانين الدولية.
العدو الصهيوني يستخدم القوة والعنف، والسلاح والشدة في تعامله مع الفلسطينيين، ليفرض ما يشاء، ويقرر ما يريد، ولكنه يلجأ أيضاً إلى الإعلام ولوبيات الضغط، ويستخدم مجلس الأمن ويشكو إلى الأمم المتحدة، ويعرض الصور ويلفق القصص، ويزور الحقائق ويشوه الوقائع، ويستخدم وسائل التواصل الاجتماعي وصفحات الشبكة العنكبوتية، ويسبق الفلسطينيين إلى العالم شاكياً منزعجاً، يستأذنهم في الرد، ويطلعهم على الظلم الذي وقع عليه، والاعتداء الذي تعرض له، ويعرض صور النساء الباكيات والأطفال وهم يصرخون مذعورين، وآثار قطع الصواريخ المتساقطة عليهم، أو التي تنزل في الشوارع والطرقات، وفي البساتين والساحات، ليبرر لنفسه لدى الغرب قصف الفلسطينيين والاعتداء عليهم.
في حين يفتقر الفلسطينيون إلى الأدوات والآليات التي يتمتع به العدو الصهيوني، لعدم توفرها أو لتعذر استخدامها وضعف تأثيرها، نظراً لامتناع الدول الكبرى عن التعاطف معهم، والوقوف إلى جانبهم، أو تصديق روايتهم، ومساندتهم في نضالهم ومقاومتهم، مخافة أن يغضب منهم الإسرائيليون، أو يتضايقوا من مواقفهم وتغير خطابهم السياسي، الذي كان تاريخياً مؤيداً لهم ومتفقاً معهم، ويصغي إليهم ولا يعير غيرهم انتباهاً أو تقديراً.
لهذا يستخف الفلسطينيون بالأدوات والآليات المتاحة، ويرون أنها غير ذات جدوى، رغم أن الأجدى أن يمضوا بها قدماً ولا يخضعوا لأي تهديدٍ دولي، أو ابتزاز غربي، أو عقوباتٍ أمريكية، أو اعتداءاتٍ إسرائيلية، وألا يحكموا عليها بالعدمية قبل أن يجربوها.
لا يحوز أن يتخلوا عنها ولا يقدموا عليها، يأساً أو إحباطاً، وعدم قناعةً أو إيماناً، فيحكمون على النتائج قبل تقديم الأسباب، ولا يلزمون أنفسهم القيام بالمقدمات، التي من الممكن أن تكون نتائجها مغايرة أو مفاجئة، وإن كانت التجارب السابقة لا تشجع، والسياسات الغربية والأمريكية ذاتها لا تتغير ولا تتبدل، ولكن هذا لا يعني التراجع أو الاستسلام.
كما لا يليق بالفلسطينيين أن يكيلوا التهم جزافاً لمن يحاول التجربة، أو يستخدم الوسيلة المتاحة، ويتهكمون بمن يؤمن بها أو يحاول من خلالها، ويطعنون في وطنيته، ويشككون في نيته، فيعقرون بذلك أنفسهم، ويخلفون صفهم، ويمزقون جمعهم، ليفرح باختلافهم العدو ومن حالفه.
ندرك جميعاً أنه لا شئ يوجع الإسرائيليين غير الدم المهراق، والحياة المفقودة، والخوف الدائم، والقلق المستمر، والذعر المسكون، وهذا لا يكون بغير المقاومة المسلحة بكل أشكالها، وبمختلف صورها، فالمقاومة هي أسمى الوسائل، وأفضل السبل، وأقصر الطرق، وهي الأجدى نفعاً، والأسرع نتيجةً، والأكثر تأثيراً، فلا نتخلى عنها أبداً لصالح أي خياراتٍ أخرى، ولا نستبدلها بأي وسيلةٍ.
ربما يحلم الإسرائيليون أن تتحول معركتهم مع العرب والفلسطينيين إلى سجالٍ في المؤتمرات، وصراخٍ على المنابر، وتصويتٍ في المؤسسات، وجدالٍ في المنظمات، ومفاوضاتٍ في الخفاء، وحواراتٍ تدوم وتستمر، وتطول ولا تنتهي، إذ لا يريدون أن يكون حوارهم في الميدان قتالاً، ولا صراعهم مع الفلسطينيين على الأرض مقاومة، لأنهم يدركون أنهم بالموت يخسرون، ويفقدون بالقتل كل أمل، ولا يستطيعون في ظل التهديد أن يستمروا، ولكنهم بغيره قد يكسبون ولا يخسرون، وقد يحققون من خلاله ما يرجون ويأملون.
المقاومة هي الأساس، وغيرها ممكن ويجب أن يكون، وعليه فإنه ينبغي على الفلسطينيين ألا يستخفوا بأي بوسيلة، وألا يدخروا أي جهدٍ، وألا يعطلوا طريقاً، وألا يمتنعوا عن التجربة والمحاولة، ولو كانت تشويهاً لسمعة الإسرائيليين، وتلطيخاً لحياتهم، وفضحاً لممارساتهم، وكشفاً لجرائمهم، وبياناً لعدوانيتهم، وعلى الجميع، عرباً وفلسطينيين، ومسلمين وأحراراً، أن يمارسوا دورهم النضالي، كلهم بطريقته ووسيلته، بالقلم والريشة، وبالكلمة والصورة، وبالفن والخطابة، وفي المؤتمرات وعلى المنابر، وفي الميدان وعلى الجبهات، بالطلقة والصاروخ، والقنبلة والعبوة، وبالمدية والسكين، وبالفأس والساطور، وبالسيارة والجرافة، وبكل وسيلةٍ ممكنةٍ، من شأنها إذكاء المقاومة، والحفاظ على الأرض، وحماية الوطن، وصيانة المقدسات.
بيروت في 4/1/2015

عجز السلاح الشرعي وقدرة سلاح المقاومة

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا تعترض الحكومات الإسرائيلية على تسليح أغلب الأنظمة العربية، ولا تبدي قلقاً إزاء برامجها العسكرية، ولا يهمها كثيراً إن كانت جيوشها تمتلك أسلحةً مدمرة، أو معداتٍ ثقيلة، أو طائراتٍ قتالية حديثة، أو صواريخ بعيدة المدى أو متعددة الرؤوس، ولو كانت قادرة على حمل رؤوسٍ نووية أو كيميائية، وقادرة على الوصول إلى أماكن بعيدة، ولكنها بالتأكيد تعرف ما تملك من مختلف الأسلحة عدداً ونوعاً، وكماً وحجماً وفاعلية، وتعرف مقراتها ومستودعاتها، وأماكن تخزينها ومواعيد حركتها وبيان مساراتها.
ولكنها تبدي رأيها في عديد الجيوش، وفي العقيدة العسكرية التي تتبناها وتؤهل عناصرها عليها، لئلا تكون عقيدتها قتالية، وألا يكون الكيان الصهيوني فيها هو العدو، ويهمها كثيراً أن يكون على رأس هرم هذه الجيوش في قيادة أركانها، ضباطٌ واعون لدورهم، ومدركون لمهمتهم، ويعرفون تماماً أنهم ليسوا في مواجهةٍ مع الكيان الصهيوني، ولا يخوضون صراعاً معه، أو تنافساً على الأرض والسلاح وإياه، وإنما دورهم حماية أنظمتهم، والدفاع عن وجودهم، الذي يتفق مع بقاء الكيان وأمنه، بل قد يكون هذا شرطٌ قاطع لبقائهم، وحاسم لاستمرار وجودهم، وضامنٌ لهم ولمصالحهم الخاصة.
كما لا تبدي اعتراضاً على السياسة الأمريكية أو الأوروبية التي تتبنى تسليح بعض الجيوش العربية، وتحديث ترساناتها، وصيانة القديم منها، والإشراف على جيوشها، وتدريب وتأهيل عناصرها وقياداتها، الذين تطمئن إليهم، ولا تقلق من جانبهم، وتعرف حقيقة مواقفهم، وتطلع على علاقاتهم، وتتابع اتصالاتهم، وتوجههم وترشدهم، وتنبههم وتحذرهم، وتنصحهم أو تأمرهم.
ولا تعترض على أي صفقاتٍ جديدة، ولو كانت تشمل أسلحةً خطيرة وحديثة، طالما أنها لصالح أنظمةٍ لا تعاديها، ولا تفكر في الإساءة إليها، وقد جربتها سنين طويلة، وتأكدت من صدق نواياها، وجدية التزاماتها، وأمانة مواقفها، فسلاحها مضبوطٌ وملتزم، والقائمون عليه أمناء وصادقون، ولكنها بالتأكيد تضغط على الدول المصدرة لمزيدٍ من الحيطة والحذر، لتفرض على الدول العربية المستوردة للسلاح رغم حسن نواياها وسلامة مقاصدها شروطاً قاسية، وضوابط كثيرة، وأحياناً رقابة مشددة، لتضمن عدم استخدام السلاح في مواجهة إسرائيل، وضمان عدم توظيفه في المعركة التي تخوضها ضد الفلسطينيين، أياً كانت الظروف والملابسات، وبغض النظر عن الأخطار المحدقة بها، وقد ثبت للإسرائيليين وللدول المصدرة أن جميع صفقات السلاح التي أبرمت بمليارات الدولارات لم تدخل المعركة، ولم تشكل خطراً على ميزان القوى في المنطقة، الذي أبقى الكيان الصهيوني الأكثر تطوراً وقوة وقدرة، كما لم تنتقل إلى أيدي غريبةٍ وخطرةٍ وغير مأمونة.
كما لا تلتفت إسرائيل كثيراً إلى المناورات الحية، التي تجريها بعض الدول العربية بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية وبعلمها، أو بالاشتراك مع غيرها من الإقليم أو الجوار، أو تجريها بصورةٍ مستقلةٍ، وداخل حدود بلادها أو مياهها وأجوائها الإقليمية، إذ أنها تأخذ علماً مسبقاً بالمناورات، وتعرف مدتها الزمنية، والمساحة والمجال الذي ستغطيه، والأسلحة المستخدمة، والغرض من المناورة، وتحاط علماً بالفرق المشاركة، والقطاعات العسكرية، وقادة الفيالق والفرق، وبكثيرٍ من التفاصيل الدقيقة التي تحقق أمنها، وتطمئن نفسها، وتذهب عنها أي قلقٍ متوقع، في الوقت الذي تكون فيه في قمة جاهزيتها واستعداداتها الفنية للرد على أي خطرٍ محتمل، والتعامل مع أي هجومٍ غير متوقع.
لا تشعر إسرائيل بأي قلقٍ من كثيرٍ من الجيوش العربية، ولا تجد نفسها مضطرة لضربها، أو توجيه ضرباتٍ أمنيةٍ موجعة لها، لإجهاضها أو لإحباط عملها، وتدمير مستودعاتها وقصف مخازنها، والقيام ضدها بأي عملياتٍ استباقية خوفاً من سلاحها، أو خشيةً من قدراتها، فهي على يقينٍ بأن هذا السلاح لا يشترى لحربها، ولا يخزن لاستخدامه في المعركة ضدها، ولن يشكل يوماً خطراً عليها ما بقي في حوزة هذه الأنظمة العربية، وبأيدي سلطاتها الحاكمة، التي تعرف أنها باقيةً في مناصبها، ومالكةً لكراسيها، وممارسةً لسلطاتها ما بقيت محافظة على هذه الثوابت وملتزمة بها، وهي تعلم أنها في اليوم الذي تفكر في استخدامه ضد إسرائيل، فإنه سيكون إيذانٌ برحيلها، وإشارة لسقوطها وانتهاء عصرها.
لكن الكيان الصهيوني يخشى من سلاح المقاومة الذي تملكه القوى العربية والإسلامية المقاومة، ويشعر بالقلق منه، ويفكر جدياً بكل السبل للتخلص منه، وإبعاد خطره عن كيانه وسكانه، ويستغل نفوذه لدى الغرب والولايات المتحدة الأمريكية لنزعه أو ضبطه، ولمحاربته أو تجفيف منابعه، ولملاحقته ومنع تهريبه، ومداهمة مخازنه، ومهاجمة قوافله، رغم أن سلاح التنظيمات والأحزاب المقاتلة بسيطٌ بالمقارنة مع أسلحة الدول، وأقل فاعلية بكثير من سلاح الجيوش العربية، ويواجه عقباتٍ كثيرةٍ وتحدياتٍ جسيمة، فضلاً عن قلته وشحه.  
يعترض الكيان الصهيوني على تسليح قوى المقاومة الفلسطينية والعربية، دولاً وتنظيماتٍ وحركاتٍ وأحزاباً، بينما يسكت عن تسليح أغلب الدول العربية، ولا يبدي اعتراضاً على الصفقات المهولة التي توقعها، أو الترسانة الضخمة التي تملكها، لأنه على يقين تام بأن السلاح الرسمي العربي المسمى بالسلاح الشرعي، مخصيٌ لا رجولة فيه ولا شهامة، ولا كرامة تحركه، ولا نبل يحفظه، ولا قيم وطنية تصونه.
بينما يغضب ويثور، ويهدد ويتوعد، ويزبد ويرغي، ويعترض ولا يسكت على سلاح المقاومة، لأنه يعلم أن هذا السلاح ثائرٌ ومنتفض، وجاهزٌ ومستعد، وأنه يعد من أجله، ويجهز لحربه، ويتدرب عليه الرجال لهزيمته ودحره، الذين يحسنون استخدامه، ويأمنون على حمله، وهو سلاحٌ جبار، يحمله مقاومون شجعان، ويقاتل به رجالٌ أشاوس، لا يتأخرون عن الإقدام، ويفعلون ما يؤمرهم الواجب، وتمليه عليهم مصالح شعوبهم ودينهم، وحلمهم الدائم الصادق هو النصر أو الشهادة.
هذا السلاح هو السلاح الشرعي بحق، والأصيل بصدق، والقادر بالفعل، وهو الناصر والظافر والقاهر، والفجر والزلزال والسجيل، والقسام والياسين والآر والجي والأم، فيجب أن يبقى ويصان، وأن يحفظ ويقدر، وأن يزيد ويستثمر، فلا يسلم ولا يفكك، ولا يتخلى عنه أصحابه، ولا يفرط فيه رجاله، فهو ليس زينةً ولا فخراً وإن كان كذلك، ولكنه حصنٌ وسوارٌ، وقلعةٌ وجدار، نحمي به أنفسنا، وندافع به عن حقنا، ونرد به جور عدونا، ونعلمه بأننا شعبٌ حرٌ مؤمنٌ غيور، لا نسكت على الضيم، ولا نقبل بالظلم، ولا نستكين للعدو، ولا نخضع له، وإن سلاحنا دوماً له حاضرٌ بالمرصاد، يقتل ويجرح، ويؤذي ويصيب، ويذل ويقهر، ويأسر ويدحر.
بيروت في 6/1/2015