نجحت العملية وماتت السوق! – فهمي هويدي

محافظ البنك المركزي المصري ذكرنا بقصة الطبيب الــذي طـمـأن أهــل المـريـض عـلـى نـجـاح الـجـراحـة التي أجراها، ثم أعرب عن أسفه لأنه مات.

ذلــك أن المــحــافــظ فـعـل نـفـس الــشــيء، إذ نـجـح فـي وقــف مــزايــدات تـجـار الـصـرافـة عـلـى الـــدولار، لكنه قتل السوق،
 وحين أراد أن يحاصر الذين يتلاعبون بالدولار فإنه جعل كل من أدخل حفنة دولارات إلى مصر يندم على «الحماقة» التي ارتكبها،

ليس ذلك فـحـسـب، لكنه أيـضـا وضـعـنـا أمــام مـفـارقـة محيرة، إذ في حين أن مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي كان بـمـثـابـة دعــوة عـالـيـة الــصــوت لـجـذب الاسـتـثـمـارات والترحيب بها في مصر، فإن القرارات التي أصدرها مضت باتجاه معاكس تماما،
إذ كانت بمثابة حملة «ناجحة» لطرد الاستثمارات وتحذيرها من عواقب القدوم إلى مصر.

القصة متداولة على ألسنة كل من له علاقة بالسوق أو له حساب بالعملة الصعبة في البنوك المصرية، إذ ما عـاد يسمح له بسحب أو إيـداع أكثر من عشرة آلاف دولار في الـيـوم، بحد أقصى خمسين ألـف دولار في الشهر،
وهـذا الـقـرار أصـاب بالشلل كـل المستثمرين الـذيـن يـسـتـوردون أو يـصـدرون سلعا أو يحتاجون إلـى خـامـات أو ماكينات مـن الـخـارج، ويتعاملون في عــدة مـلايـين مـن الـــدولارات كـل شـهـر،
 كـمـا أنــه سبب مشكلة عـويـصـة لـكـل أصـحـاب المـصـالـح خصوصا المرضى الذين تتجاوز نفقات علاجهم الحدود المعلنة.
وفــي هــذه الـحـالـة فــإن بـعـض تـجـار الـعـمـلـة أصـبـحـوا يوفرون المبالغ المطلوبة للراغبين في الخارج، بعد دفع مقابلها المـصـري فـي داخــل الـبـلاد بـزيـادة ٥٪ على الأسـعـار المـقـررة.

وسمعت مـن بعض الأجـانـب الذين يمثلون شركات ومؤسسات بالخارج أن شركاتهم لا تعتمد هذا الأسلوب، وأن مثل تلك المقايضات يتعذر تسجيلها في حساباتهم المالية.

حـدثـنـي الـبـعـض أيــضــا عــن أزمـــة كــبــرى يـواجـهـهـا الـلـيـبـيـون والــســوريــون الـذيـن حـمـلـوا مـعـهـم أمـوالـهـم إلــى مـصـر، وقـــرروا أن يـسـتـقـروا فـيـهـا بـعـدمـا طـال أمـد الفوضى والاضـطـرابـات التي ضربت الاستقرار فـي بـلـديـهـم.

مـنـهـم مـن اتـجـه إلــى إقـامـة مـشـروعـات ومـنـهـم مـن عــزم عـلـى شــراء عــقــارات لـسـكـنـاهـم هم وعائلاتهم.
هؤلاء جميعا أصبحوا يواجهون أزمة لم تخطر لهم على بـال،
ذلك أنهم ما عـادوا قادرين على سحب الأمـوال التي جلبوها معهم إلـى مصر لتنفيذ مشروعاتهم أو شراء العقارات.

 وفي الوقت ذاته فإنهم ما عادوا قادرين على إخراجها من مصر إلى أي بلد آخر، وهو ما أثر بالسلب على فرص الاستثمار وعلى سـوق العقار الـذي أصـيـب بـالـركـود.

ومـا فعلوه أنهم جـمـدوا مشروعاتهم، ونصحوا غيرهم بـألا يـكـرروا الخطأ الـذي وقعوا فيه.

وفي الوقت الراهن على الأقل فـإن تركيا صــارت البلد الأكـثـر جـذبـا لـهـم، ذلـك أنها تستقبلهم بغير تأشيرات دخـول، وبغير قيود على إدخال الأموال أو إخراجها.

 أدري أن الـقـيـود الـتـي فرضها البنك المـركـزي أوقفت الزيادة في سعر الدولار، وقلصت إلى حد كبير الفرق بين سعره في محال الصرافة وسعره في البنوك.
وقد قـرأنـا تصريحا نشر على لسان السيد هشام رامـز محافظ البنك المـركـزي ذكـر فيه أنـه نجح في القضاء على السوق السوداء خلال ٤٨ ساعة،
وهو بالضبط ما فعله الطبيب سابق الذكر الذي تباهى بنجاح العملية الجراحية التي أجراها.

إلا أن السيد رامز لم يشر إلى ما جرى للسوق بعد ذلك وما أصـاب حركة الصرف وسـمـعـة الاسـتـثـمـار فـي مـصـر جــراء «الـنـجـاح» الـذي أحــرزه، فـي حـين أن الطبيب لـم يستطع أن يخفي أن مريضه مات بعد الجراحة!.

سـألـت مـن أعــرف مـن خـبـراء الاقـتـصـاد الـذيـن آثــروا عـدم ذكـر أسـمـائـهـم، فـكـان رأيـهـم أن تحليل المشكلة كان خطأ من البداية، وأن ما ترتب على ذلك جاء خطأ بدوره.

وفي تحليلهم أن الأزمة الاقتصادية ظهرت في مصر نتيجة تراجع مواردها من النقد الأجنبي بعد ثورة ٢٠١١إذ ضـربـت السياحة وتـوقـفـت الاسـتـثـمـارات الأجـنـبـيـة.

وإزاء شـح هـذه المــوارد فـإن الاقـتـصـاد لا يجد أمامه عـادة سـوى خيارين اثنين،
فإما أن يقلل مـن مـصـروفـاتـه أو أن يـسـعـى جـاهـدا لـزيـادة دخله عـن طـريـق تنشيط الـقـطـاع الإنـتـاجـي ورفــع كـفـاءتـه لـزيـادة تـصـديـره إلـى الـخـارج.

 لـكـن مـا حـدث أنـنـا لم نـتـخـذ خـطـوات جــادة عـلـى هـذيـن الـصـعـيـديـن.
إذ لا تـزال المـصـروفـات تحتاج إلـى ضبط ومـراجـعـة، كأن يـوقـف مـؤقـتـا اسـتـيـراد الـسـلـع الـكـمـالـيـة الـتـي تغرق الأسواق
(الأطعمة الفاخرة والأجبان التي لا تحصى أنواعها وأكلات القطط والكلاب نموذج لذلك)

كما أن القيود المفروضة لا تسمح بزيادة الإنتاج أو تحسينه، حـيـث يـتـعـذر ذلــك فــي ظــل الـقـيـود المــفــروضــة على شـراء الخامات والماكينات،
 الأمـر الـذي لا يشجع أي مستثمر على أن يطور إنتاجه لكي يجذب المستهلك المحلى والمستورد الأجنبي.

لست فـي وارد اقـتـراح الـحـلـول، لأنني لست مختصا بـالمـوضـوع، لكنني أنـقـل آراء أهـل الخبرة بالسوق أو بالاقتصاد، خصوصا، أنني صرت أسمع شكاواهم وانتقاداتهم حيثما ذهبت.

ما أثار انتباهي ليس فقط أن الــقــرارات الـتـي اتـخـذت لـم تـؤد إلـى ارتـبـاك الـسـوق وإصابته بالشلل، ولكن أيضا أنها لم تلق ما تستحق مـن دراســة وتـمـحـيـص مـن جـانـب أهــل الاخـتـصـاص والـخـبـرة قـبـل صــدورهــا.

وإذا صـح ذلــك فـإنـه ينقل المناقشة إلـى مستوى آخـر يثير قضية أكـبـر مثارة في المجال العام، تتمثل في التساؤل حول آلية إصدار مثل تلك القرارات التي تهم مستقبل السوق والبلد،
أين تناقش ومن يشارك في المناقشة وهل تؤهله خبرته لذلك أم لا؟
ـ إلى غير ذلك من الأسئلة التي باتت تتردد كثيرا في فضاءات الاقتصاد والسياسة دون أن يجيب عليها أحد!.

صحيفة الشرق القطريه الأحد 14 رجب 1436  3 مايو 2015

بانتظار حكم التاريخ - فهمي هويدي

أخيرا رأينا لهم صورا وتابعنا لهم أقوالا، في حين انهم طوال العشرين شهرا الماضية لم نكن نرى منهم سوى صور الجثث والأشلاء، ولا نسمع عنهم سوى أخبار القتل والقضاء على البؤر الإرهابية، ولا يذكرون إلا بحسبانهم تكفيريين في سيناء.

 أتحدث عن بدء محاكمة ٢١٣ شخصا من جماعة أنصار بيت المقدس، الذين عرفناهم في سيناء قبل ثورة ٢٠١١ مناهضين لإسرائيل ومخربين لخط الغاز المار بها.
ثم فوجئنا بهم بعد الثورة قد نقلوا عملياتهم إلى القاهرة والدلتا بوجه أخص.

 ومنذ ذلك الحين لم نعد نسمع عنهم إلا من خلال البيانات الرسمية التي ظلت تنقلها وسائل الإعلام، متحدثة عن مواجهة الشرطة والجيش.

 وربما تمكن البعض من متابعتهم من خلال الأشرطة التي ما برحوا يبثونها بين الحين والآخر، والتي سجلت عملياتهم التي دأبوا على القيام بها.

المعلومات الصحفية ظلت تحدثنا طوال الوقت عن قتلاهم. إلا أنه حين بدأت محاكمتهم يوم الأحد 3 مايو فإننا فوجئنا بأن ٢١٣ متهما من عناصر التنظيم متهمون في القضية.

وقد ظهرت صورهم في أغلب صحف الاثنين.
ومما نشرته صحيفة الأهرام يومذاك أن عناصر التنظيم اتهموا بارتكاب ٥٤ جريمة إرهابية تضمنت اغتيالات وقتل ٤٢ من ضباط وقوات الشرطة إضافة إلى قتل ١٥ مواطنا آخرين وترتبت على عملياتهم إصابة ٣٤٩ آخرين.

ومن بين ضحاياهم المقدم الشهيد محمد مبروك الشاهد الرئيس في قضية التخابر التي اتهم فيها الرئيس الأسبق محمد مرسي وآخرون من قيادات جماعة الإخوان،

كما كان من ضحاياهم اللواء محمد السعيد مدير مكتب وزير الداخلية والرائد محمد أبو شقرة والملازم أول محمد حسن والمجند على رمضان. والعميد طه زكي والعقيد طارق الطحاوي.

اتهم عناصر التنظيم أيضا بمحاولة اغتيال وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم، واحداث تفجيرات طالت منشآت أمنية بعدد من المحافظات المصرية في مقدمتها مباني مديريات أمن القاهرة والدقهلية وجنوب سيناء.
من بين التهم كذلك أنهم استهدفوا وقاموا بإتلاف بعض دور العبادة، ممثلة في المساجد والكنائس.

ورغم ان تلك الجرائم تظل مجرد اتهامات يفترض ان يحسم القضاء مصيرها، إلا أنها تثير انتباهنا من نواحٍ عدة أبرزها ما يلي:

يلفت النظر ابتداء كم العمليات ونوعيتها. فالتنظيم الذى يقوم بـ٥٤ عملية خلال عشرين شهرا أغلبها من الوزن الثقيل لا يستهان به، ولا بد ان تتوافر له قدرات تنظيمية عالية الكفاءة وامكانيات في التسليح ليست بسيطة.

إن مستوى الأداء بما كشف عنه من قدرات في التدريب والتنظيم والتخطيط كاشف عن اننا بصدد جيل جديد من المتطرفين.

ومن القرائن التي تؤيد ذلك تلك المعلومات التي تسربت عن انخراط بعض الضباط السابقين في عضويته،
 إذ أشارت المعلومات التي نشرت يوم الأحد الى ان بين المتهمين مقدم شرطة سابقا حصل على فرقة لمكافحة الإرهاب، فإن بعض المنابر الإعلامية الأخرى سربت معلومات مماثلة في وقت سابق.

 إذ نشر موقع «اليوم السابع» في ٢٠ يناير الماضي ان اثنين من ضباط الصاعقة السابقين اشتركا في محاولة اغتيال وزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم.
وفي 6 فبراير ذكر الموقع ان الأمن يبحث عن ثلاثة أشخاص اشتركوا في تفجيرات العريش وعملية كرم القواديس، وان الثلاثة ضباط سابقون فصلوا من القوات المسلحة والشرطة.

وهو ما أكدته «البوابة نيوز» التي ذكرت في اليوم ذاته ان العقل المدبر لعملية العريش ضابط صاعقة فصل من الخدمة منذ سبع سنوات، وسبق له أن عمل في سيناء لمدة عشر سنوات.

وأشارت في هذا الصدد إلى ان عدد الذين فصلوا بسبب ميولهم «الجهادية» يصل عددهم إلى ١٠٥ من الضباط وأمناء الشرطة.

الملاحظة الثالثة ان عمليات التنظيم لها تركيزها الخاص على أفراد ومقرات الشرطة.
وهو ما دل عليه ذكر الادعاء ان المتهمين شاركوا في اغتيالات استهدفت ٤٢ من ضباط الشرطة،
إضافة إلى محاولتهم اغتيال وزير الداخلية السابق،
 كما قاموا بتفجير مباني مديريات أمن القاهرة والدقهلية.
 وهو ما يطرح احتمالا يحتاج إلى دراسة، كأن يكون التنظيم بعملياته تلك أراد أن يثأر من الشرطة ويصفي حسابات سابقة معها.

الملاحظة الرابعة المهمة ان أغلب العمليات التي اتهم تنظيم أنصار بيت المقدس بارتكابها في القضية المنظورة نسبت وقت وقوعها إلى الإخوان.
 المثل الأشهر على ذلك ما حدث عند تفجير مبنى مديرية أمن الدقهلية في ٢٤ ديسمبر عام ٢٠١٣.
ذلك ان مجلس الوزراء عقد اجتماعا في اليوم التالي مباشرة (٢٥ ديسمبر) أعلن في أعقابه الدكتور حسام عيسى نائب رئيس الوزراء آنذاك أن المجلس اعتبر الإخوان جماعة إرهابية بسبب وقوفها وراء تفجير مديرية أمن الدقهلية.

الملاحظة الأخيرة تنبهنا إلى ان النشر عن العمليات الإرهابية التي تمت في مصر طوال العشرين شهرا الماضية انطلق من منظور تعبوي، وظل محكوما بحسابات الصراع السياسي،

 ذلك ان مصادره لم تتجاوز بيانات الأجهزة الأمنية وتسريبات إدارات التوجيه المعنوي وتصريحات المصادر السيادية.

وذلك كله يمكن ان يخضع للمراجعة والتصويب حين يسمع رأي الأطراف الأخرى، أعني حين يعرض الأمر على القضاء فيوجه الادعاء ويرد المحامون ويتحدث المتهمون والشهود وتفتح الأحراز.

حينذاك ستتوافر فرصة أفضل نسبيا للتعرف على الحقائق كما هي، قبل ان تخضع للتلوين والتلفيق، وهو ما قد يسمح لنا ان نعرف على وجه التقريب من فعل ماذا ومن الظالم ومن المظلوم.

وأيا كان رأينا في حكم القضاء فإن حكم التاريخ يظل أكثر نزاهة وإنصافا.

صحيفة السبيل الاردنيه الخميس 18 رجب 1436  7 مايو 2015