التربية.. بين القيم و السلوك - طارق الحبيب


لنتفق أولاً على أن سلوك الأبناء هو انعكاس للممارسة الوالدية المتأرجحة أو الثابتة. المتزنة أو المنفعلة، إن التربية ليست عملية عشوائية ترتقي بالاجتهادات الشخصية. إنها منهج منظم قائم على إدراك طبيعة الطفل وإدراك خصوصيته الفكرية والنفسية وكذلك الروحية.

التربية هي علاقة تعتمد على التقديم والقيام بالواجبات المادية والمعنوية مقابل الظفر بمخرجات بشرية تحمل أفكارا وسلوكيات متناغمة مع الأدوار المتوقعة من كل شخص حسبما تقتضيه المرحلة العمرية التي يعيشها، و لا يمكن لهذه العلاقة أن تثمر مالم تخضع للمنهج العلمي المقنن وليس المعمم.

 فإن كنت تبحث عن سلامة النشء فعليك الإحسان للنبتة. وإن كان هدفك الخروج للمجتمع بجيل معتدل نفسياً فعليك بحسن الاستثمار لتلك الطاقات والمواهب والمعطيات البشرية التي تعتبر في مرحلة ما ضمن أسوار حياتك وتمتلك القدرة على توجيهها وضبطها.

إن عالم الطفل هو عالم محير في حس الكثيرين. وقد يشعر البعض أنه العالم الغامض أو الصعب. كما قد يتجاهل البعض أهمية ذلك للحد الذي قد يجعله متنحيا عن تعلم أدبيات وفنون التعامل مع هذا العالم المركب والمتنوع.
والحقيقة أن الكيان الطفولي يمكن النظر له من عدة زوايا وبأشكال مختلفة. بمعنى أن الطفل هو في أساسه وتكوينه الجسماني والعقلي والنفسي مخلوق ضعيف لا يمارس الاستقلالية في حياته إن لم يتدرب عليها ويتعلمها بل ويتقمصها من خلال المحيط الذي يتعامل معه بشكل مباشر. وفى المقابل فإن الطفل يعتبر مخلوقاً قوياً في متطلباته وحاجاته ورغباته وكذلك في الدفاع عن نفسه وفى التعبير عما يريد. وهذه التركيبة المتناقضة هي من خصائص مرحلة الطفولة التي من خلالها يتم التكامل في عملية التربية.

فالطفل يعيش مرحلة إلحاح للحاجات النفسية والجسدية ومرحلة الحاجة الدائمة للمعرفة والتوضيح ومرحلة الحاجة المستمرة لإثبات وجوده، وقد يخفق البعض عندما يتجاهل هذه الحاجات الأساسية ويتفانى في إشباع الحاجات المادية للحد الذي قد يُفقد الطفل مساحة كبيرة من نموه ونضجه النفسي والانفعالي.
إن الطفل لا يقدر أن يتقبل الفصل أو التمييز بين إشباع حاجاته بل هو يرى ضرورة إشباع كل ما ينقصه وبصورة ترضي تطلعاته وآماله. وبالرغم أن الإشباع هدف في حد ذاته إلا أن الهدف الجوهري الحقيقي هو وسيلة هذا الإشباع والكيفية التي يتم من خلالها تحقيق الرغبة.

إن المتعة الحقيقة يمكن تحقيقها إن فهم الطفل الأبعاد الواسعة والممتدة من إشباع حاجاته. فمثلاً : لماذا ينام الطفل (ينام كي يصحو مبكراً)، إن هذا الاقتصاد والاختصار في الشرح يجعل النوم حاجة ملحة ولكن غير مكتملة عند إشباعها. ذلك لأن الاستيقاظ مبكراً قد لا يكون هدفا بالنسبة للطفل وبذلك قد ينشأ شكل من أشكال الصراع الداخلي للطفل سببه عدم ارتقاء التفسير لمستوى احتياجه. وحتى يوازي الطرح مستوى الطموح الذي يرسمه الطفل ويتوقعه لابد أن يتم احتواء احتياج الطفل معرفياً ونفسياً وليس فقط جسدياً ومنحه قائمة التبريرات والتفسيرات من دائرة اهتمامه. فمثلاً : (النوم. . مهم لصحة الإنسان.. لأنه يجعلك قويا.. يجعل وجهك أجمل.. يجعل لعبك أفضل) وهكذا.

إن ربط إشباع الحاجة بمحبوبات الطفل وغمره بمفاهيم متنوعة وواسعة يساعده على تكوين مفهوم القيم لديه قبل تشكيل السلوك، إن ممارسة السلوك قد تكون مجرد ظاهرة طبيعية تتشابه بها جميع الكائنات الحية ولكن أن ينطلق السلوك من قيمة معنوية ومعرفية ثرية بالتوضيحات فإن ذلك مايميز الكائن البشري ويميز تكوينه الإنساني الخاص.
إن التركيز على بناء السلوك هو خطوة ستنتهي بحصيلة مكثفة من السلوكيات والممارسات غير المترابطة أو المضبوطة في الكثير من الأحيان إلا أن تشكيل السلوك بمزيج من المعرفة والتوضيح والتطبيق هو الأسلوب التربوي الأكثر نفعاً وسلامة لصحة الطفل ونموه النفسي.

إن الطفل الذي ينطلق من قيم راقية تشكلت في تربيته سيكون أكثر توازناً وثباتاً من ذلك الطفل الذي يمارس السلوك وهو في الحقيقة لا يعي المعنى من هذا السلوك ولا الهدف منه. إنه في الغالب يبحث عن تحقيق حاجاته ورغباته وسعادته دون أن يتبلور في حسه وإدراكه قيمة ومعنى الهدف من ممارسة أي سلوك.

إن تشكيل القيم يعتمد على نوع التربية التي يستظل الطفل بها. فربط حاجات الطفل وحياته ببنية معرفية متوافقة مع عمر الطفل ومستوى فهمه وقدراته. أفضل من ربط الحاجة بالإشباع المادي فحسب. كما أن تنمية مفهوم الحس الاجتماعي واستشعار الطفل لتقدير الآخرين وقبول سلوكه ووصفه بالواعي والمتزن يشكل قيمة الشعور بالمسئولية عند الطفل تجاه سلوكياته وتجاه نفسه عموماً، ويعتبر تقدير الآخرين من محفزات و معززات السلوك الإيجابي لدى الطفل بل ومن دواعي ثباته ذلك لأنه يعمل بشعور الجماعة متناغما مع أفكارها وأعرافها.

إن القيم تتشكل من خلال : تنمية المفاهيم التي تهتم بالقبول والاستحسان والتقدير والحب والحاجة للأمان وبذلك تنشأ في ذهن الطفل وتصوره صورة متكاملة عن أي سلوك ليرتقي بذلك السلوك من كونه أداء عمليا مجردا إلى قيمة إنسانية واقعية وعملية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق