نجحنا في مادة ورسبنا في الامتحان النهائي


فهمى هويدى

أما وقد هدأت العاصفة التي اجتاحت مصر إثر اختطاف الجنود السبعة في سيناء. فاسمحوا لنا أن نستعيد بعض خلفيات الحدث ومشاهده. كي نستخلص منها ما تيسر من الخبرة والعبرة.

(1)

بمجرد أن نفتح ملف اختطاف الجنود سنفاجأ بأن الحادث له سابقة مسكوت عليها أو نسيناها، ففي يوم 12 نوفمبر عام 2008 تناقلت المواقع الإخبارية قصة خلاصتها أن البدو اختطفوا 21 من الضباط والجنود، أحدهم برتبة عقيد عند النقطة 36 وسط سيناء، ونقلت عن المصادر البدوية قولها إن المختطفين بمثابة «رهائن» تم إيداعهم في منطقة «وادي العمر» معقل قبيلة الترابين لحين تقديم الضباط المسؤولين عن قتل 4 من البدو إلى محاكمة عادلة ــ وكان آخرهم مواطن يدعى ربيع أبوسنجر (42) قتلته قوات الأمن. وقد عقد اللواء منتصر شعيب، مدير أمن سيناء اجتماعا صباح ذلك اليوم (الأربعاء) بحضور اللواء عدلي فايد مساعد وزير الداخلية للأمن العام واللواء محمد عبدالفضيل شوشة، ومعهم مشايخ الترابين وبعض مشايخ القبائل الأخرى، وتمت خلال الاجتماع مناقشة ملابسات وأسباب التوتر القائم بين الأجهزة الأمنية والبدو، واستعادة الضباط والجنود المختطفين، على أن يتم إطلاق سراح عدد من عناصر البدو الذين ألقى القبض عليهم خلال اليومين السابقين.

كان موقع «اليوم السابع» قد ذكر في يوم سابق (الثلاثاء 11 نوفمبر) أن البدو المعتصمين استولوا على مركز شرطة بلدة مدفونة، بالقرب من الحدود بين مصر وقطاع غزة، حدث ذلك في الوقت الذي اتخذت فيه الأجهزة الأمنية بشمال سيناء العديد من التدابير لامتصاص غضب قبيلة الترابين، قبل تصعيد اعتصامهم الذي استمر طوال اليوم السابق (الاثنين 10 / 11) فى قرية نجع شبانة على الحدود المصرية الإسرائيلية، وفيه أطلقت الأعيرة النارية وتم إحراق إطارات السيارات، في نفس المكان الذي شهد في السابق اعتصامات مفتوحة للمطالبة بحقوق البدو وإطلاق سراح المعتقلين من أبناء سيناء.

على ذات الموقع وفي الفترة ذاتها (نوفمبر 2008) أخبار عدة تتعلق باشتباكات وصدامات بين البدو والأجهزة الأمنية، أحدها تحدث عن تجمع عشرات من أبناء قبائل سيناء على الحدود المصرية الإسرائيلية فى منطقة نجع شبانة، حيث نظموا اعتصاما مفتوحا اعتراضا على تفجير قوات الأمن المصرية سيارة كان يستقلها اثنان من أبناء الترابين، الآخر تحدث عن مقتل اثنين برصاص الشرطة أحدهما من قبيلة الترابين والثاني من قبيلة الرياشات. الخبر الثالث تحدث عن أن ضابطا صغيرا تسبب فى معارك بين الأمن والبدو، ونقل عن بعض عناصر البدو قولهم، من الآن فصاعدا لا وجود للحكومة فى سيناء.. الخ.

(2)

هذه الخلفية تنبهنا إلى أربع ملاحظات هي:
 أن هناك احتقانا له تاريخ بين بعض قبائل سيناء وبين الأجهزة الأمنية، وأن محاولات امتصاص ذلك الاحتقان لم تنجح خلال العقود الثلاثة الأخيرة على الأقل.
 أن الاحتقان له مصدران أساسيان، أولهما فكرة التعامل مع سيناء باعتبارها حالة أمنية، الأمر الذي صرف الانتباه عن الجهد الذي ينبغي أن يبذل لتنمية مجتمعاتها للنهوض بها وليس فقط لجذب السياح وتوفير أسباب الراحة لهم. المصدر الثاني تمثل في إساءة معاملة الشرطة لأهالي سيناء على نحو مهين لم يكن ممكنا القبول به أو احتماله في ظل التركيبة القبلية الراسخة هناك.

أن التوتر الذي شاع في سيناء لم تكن له في البداية دوافع أيديولوجية، حيث لم تكن قد ظهرت على السطح الجماعات السلفية أو التكفيرية التي يتواتر الحديث عنها هذه الأيام، وهو يعني أن للغضب وجودا وجذورا سابقة على ظهور تلك الجماعات، الأمر الذي يعني أنها جاءت كاشفة لمشاعر النقمة والغضب وليست منشئة لها.
< الملاحظة الرابعة هي أن الحدث جرى احتواؤه في هدوء حينذاك، حيث أعطى حجمه الطبيعي باعتباره إشكالا بين الأهالي والشرطة جرى حله من خلال التفاهمات التي قادها الوسطاء، ورغم أن الذين تم اختطافهم آنذاك كانوا ثلاثة أضعاف الجنود الذين اختطفوا مؤخرا، إلا أن الحدث لم يثر الصدمة أو الدوى الذي شهدته مصر في الأسبوع الماضي، وهذا الاختلاف في الأصداء وثيق الصلة باختلاف ظروف كل من الحدثين، فالحدث الأخير وقع في أجواء استقطاب داخلي وصراع حاد وهو ما لم يكن قائما منذ خمس سنوات، حين وقعت حادثة الاختطاف سابقة الذكر وتلك مسألة تحتاج إلى وقفة.

(3)

لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن حادث اختطاف الجنود السبعة سلط الأضواء على مشكلة القاهرة وليس مشكلة سيناء. إذ منذ اللحظات الأولى استخدم الحدث في اتجاهين متوازيين، أحدهما وجه الاتهام بالتآمر والفشل إلى الرئيس مرسي وجماعته، والثاني استغاث بالجيش واستنفره لمحو «العار» الذي لحق بمصر جراء ما وصف بأنه تطاول على سيادتها وإهانة لكرامة جنودها.
تعددت صياغة التعبير عن هذا المعنى أو ذاك، وكان عدد جريدة الدستور الصادر في 21 / 5 حالة قصوى في هذا الصدد، إذ اعتبرت أن عملية الخطف من تدبير جماعة الإخوان، ووصفتها بالعملية الإرهابية «رفح2»، معتبرة أن قتل الـ16 جنديا فى شهر رمضان الماضي هي رفح واحد، وذكرت فى عناوين كبيرة بسطتها على الصفحة الأولى أن العملية استهدفت أربعة أمور هى: كسر هيبة الجيش وإهانة كرامة شعبنا أمام العالم ــ إبعاد الفريق أول عبدالفتاح السيسي وزير الدفاع ورئيس الأركان ورئيس المخابرات ضمن عشرة من قيادات القوات المسلحة، تمهيدا للإطاحة بعشرة آلاف ضابط وتحويلهم إلى وظائف مدنية أو إحالتهم إلى التقاعد ــ السيطرة على مفاتيح الجيش الذي يمثل العقبة الرئيسية التي تتطلع الجماعة للاستيلاء على ممتلكات الدولة الإستراتيجية ــ إلهاء الشعب عما يحدث فى مصر الآن من كارثة اغتصاب ممتلكات الدولة وبيع أصولها بالصكوك إلى جانب تمرير مشروع احتلال قناة السويس.

على الصفحة ذاتها عناوين أخرى عرضت لما اعتبرته أسبابا للخلاف بين الجماعة والقيادات العسكرية. وكيف أن تلك الأسباب هي محور الصدام بين الطرفين الكامن وراء مؤامرة اختطاف الجنود السبعة (بالمناسبة ستة منهم من الشرطة ويتبعون الأمن المركزي).

التعبئة الإعلامية تحركت في ذلك الإطار الذي لم يذكر سيناء. ولا أشار إلى شيء من مشكلاتها، أستثنى من ذلك بيانا رصينا أصدرته منظمات حقوق الإنسان المصرية (في 20/5) انتقد تجاهل مظلومية أهالي سيناء واحتجاز نفر منهم في السجون بالمخالفة للقانون، وحذر من أن تقتصر استجابة سلطات الدولة كالمعتاد على الحل الأمني قصير النظر الساعي لإطلاق سراح الجنود المختطفين دون معالجة جذور الأزمة الحالية، التي لم تكن لتقع إلا بسبب تجاهل الدولة لأبسط قواعد العدالة والقانون، ورفضها الاستجابة لمطالب لم تنقطع منذ سنوات لإنهاء الظلم المزمن الواقع على أبناء سيناء وسجنائهم»، وأكد بيان المنظمات الثماني الموقعة عليه على «أن الحل الجذري للازمة الممتدة فى سيناء يبدأ وينتهي بإنهاء التهميش السياسي والاقتصادي لأهالي سيناء، وبرد حقوقهم ورفع المظالم عنهم».

(4)

بيان منظمات حقوق الإنسان بدا سباحة ضد التيار وتغريدا خارج السرب، لسبب جوهري هو أنه كان محاولة للفت الانتباه إلى التشخيص الصحيح لمشكلة سيناء، فى حين أن الخطاب الإعلامي السائد لم يكن معنيا بتصحيح التشخيص، بل لم يكن معنيا بسيناء كلها، لأن تصفية حسابات القاهرة كانت الهدف والموضوع الأساسي للحملة السياسية والإعلامية.
كما لم يؤخذ بيان منظمات حقوق الإنسان على محمل الجد، فإن البيان الذي أصدرته السلفة الجهادية ونفت فيه علاقتها بخطف الجنود لقي نفس المصير، وكانت النتيجة أننا لم نفهم حقيقة ما حدث في سيناء، وحاول البعض إبراء ذمتهم إزاء ما جرى باستسهال المطالبة بدخول الجيش إلى الساحة والقيام بعملية عسكرية لتحرير «الرهائن»، دون إدراك لمغزى هذه الخطوة وعواقبها، ونحمد الله على أن الجيش كان أكثر حكمة، فدعا إلى التريث رغم أنه كان تحت تصرفه أمر عمليات وقعه رئيس الجمهورية، في أعقاب عقده مع وزير الدفاع وقيادات القوات المسلحة.

المدهش في الأمر أن كثيرين تحدثوا عن ضياع هيبة الدولة والمساس بكرامتها والعار الذي لحق بها جراء خطف الجنود السبعة، وتجاهلوا أن انتقاص سيادة الدولة على سيناء وتقييد حركة قواتها على أرضها يجسد كل تلك المعاني. لكن الأغلبية تتجاهل تلك الحقيقة وتغض الطرف عنها. وهو ما ذكرني بمقولة الشيخ محمد الغزالي التي انتقد فيها خلل التفكير وشيوع قصر النظر عند الذين تستبد بهم الغيرة ويثورون لكرامتهم إذا ما اغتصبت فتاة من أهليهم، في حين لا يحركون ساكنا إذا اغتصبت بلادهم، وهو بالضبط ما فعله أصحابنا هؤلاء.

إن أخشى ما أخشاه أن يغلق ملف سيناء بعد إطلاق سراح الجنود وعودتهم إلى أهاليهم لتعود بعد ذلك «ريمة إلى عادتها القديمة». فتنسى مسألة المطالبة ببسط سيادة مصر على أراضيها كاملة وتعود الأجهزة الأمنية إلى استخدام أساليبها المعروفة فى التحفظ على الأهالي واستنطاقهم. وتبقى مظلومية أهالي سيناء على حالها، ويغرق الجميع فى مستنقع مراراتهم وحساباتهم الخاصة، ناسين الوطن وناسه ومستقبله، وحين يحدث ذلك فإننا لا نستطيع أن نتفاءل كثيرا بالمستقبل، لأن خياراتنا ستصبح بين سلطة لا تحسن الإدارة ومعارضة لا تحسن التقدير، كأنما دخل الاثنان في مسابقة لقلة الحيلة وقصر النظر، لقد نجحنا حقا في إطلاق سراح الجنود المختطفين لكننا رسبنا فيما عدا ذلك، الأمر الذي يسوغ لي أن أقول إننا نجحنا في مادة واحدة لكننا رسبنا في الامتحان النهائي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق