لحظة ليكودية كاشفة - فهمى هويدى

إذا احتكمنا إلى التصريحات الرسمية التي تردد أن مشكلة مصر مع حماس وحدها، وأن تضامنها مع الشعب الفلسطيني واحتضانها لقضيته من ثوابت سياستها الخارجية، فإن ما حدث مع الناشطات الغربيات في مطار القاهرة يبدو وكأنه يكذب ذلك الادعاء. إذ ليس مفهوما أن يصل إلى المطار ذلك الوفد في طريقه إلى غزة للاحتفال بيوم المرأة العالمي مع نسائها الشجعان وشعبها الصامد، ثم يتم احتجازه، ولا يسمح لهن بالوصول إلى رفح. ويظل عصيا على الفهم أن يكون الحماس للتضامن مع الفلسطينيات في غزة صادرا عن نشاطات جئن من أمريكا وفرنسا وإنجلترا وأيرلندا وبلجيكا، في حين يصدر التعنت والحظر من سلطات مطار أكبر دولة عربية. وبدلا من أن يتدخل المجلس القومي للمرأة المصرية لكي يؤدي دورا نزيها يتضامن فيه مع الوفد النسائي وينقذ به الموقف ويحسن صورة البلد، فإننا وجدناه توارى، ولم نسمع له صوتا. ويبدو الحرج على أشده حين تعتصم الناشطات في المطار احتجاجا على المنع، ويتمددن على الأرض وقد تدثرن بأعلام فلسطين، ثم تطوف تلك الصور أنحاء العالم حاملة معها الدهشة إزاء ما وصلت إليه الحال في مصر بعد الثورة. أما حين رددن في المطار بعربية مكسرة الأغنية التي تقول «أناديكم وأشد على أياديكم»، التي رأيناها مع الجميع على اليوتيوب، فإنهن بعثن إلى الجميع برسالة تقول إنهن جئن وهن يمددن الأيدى إلى نساء غزة وشعبها المحاصر، ولكن مصر الليكودية قطعت عليهن الطريق ورفضت السماح لتلك الأيدي أن تصل إلى القطاع.
لا يقولن أحد إن ذلك السلوك المخجل كان تصرفا شخصيا من موظفي أمن المطار. فتلك سياسة حُسِبت على السلطة المصرية، لم تضع في الحسبان صداها فلسطينيا وعربيا أو في أوساط شرفاء العالم وأحراره. علما بأن الأخيرين يتنادون الآن داعين إلى مقاطعة إسرائيل اقتصاديا وأكاديميا، في موقف أكثر تقدما منا بمراحل.
إن أي صاحب ضمير إذا قدر له أن يتابع وقائع ما جرى في ذلك اليوم الحزين في مطار القاهرة لن يصدق أن مصر لا تزال مع الشعب الفلسطيني ولا تزال على تضامنها مع قضيته.
ذلك أن الوفد النسائي الغربي لم يأتِ للتضامن مع حماس. وأغلب الظن أن أعضاءه لا يعرفن أن لحماس علاقة بالإخوان أو أن لمصر مشكلة أمنية معها. وإنما شغلن بأمور أخرى تختلف تماما عن تلك التي خطرت ببال المؤسسة الأمنية. التي فضحنا سلوكها في المطار.
لقد جئن للتضامن مع مظلومية نساء فلسطين وشعبها الصامد الذي يعاني من الحصار الإسرائيلي منذ ثماني سنوات. ولكنهن في مطار القاهرة فوجئن بأن معاناة الحصار ليست صادرة عن إسرائيل فحسب، لأنه مصري أيضا. ولا يقل عن الإسرائيلي جفاء وفظاظة، وإن كان دونه في الذكاء والتدبير.
قرار المنع المصري تجاهل رسالة الوفد النسائي وهدفها النبيل. ولم يبالِ بالفضيحة التي ترددت أصداؤها في كل مكان. ولم ينتبه إلى أن قرارا من ذلك القبيل يسيء إلى سمعة البلد ونظامها، من حيث إنه يفهم صدوره عن حكومة نتنياهو الليكودية ولا يتوقع صدوره في ظل الثورة المصرية. كما أنه لم يفرق بين حماس والشعب الفلسطيني في غزة أو بين الأزمة العارضة والموقف الاستراتيجي.

صانع ذلك القرار العجيب لم يرَ شيئا من كل ذلك. وفيما بدا فإنه صم الآذان وأغمض الأعين، وظل مهجوسا بشيء واحد هو الدعايات المصرية التي شيطنت حماس ونسبت إليها تهديد أمن البلاد بصورة أو أخرى. وتلك مشكلة كبرى. أولا لأنها أوقعت صانع القرار في خطأ جسيم أساء إلى سمعة البلد وسحب الكثير من رصيد الاحترام له والثقة فيه. ثانيا ــ وهذا هو المقلق حقا ــ لأن ذلك الموقف جاء كاشفا لمدى الخلل والقصور في آليات إصدار القرار. إذ بدا وكأنها باتت محكومة بالنظر الأمني الضيق الذي يهدر ما هو سياسي، ويضحي بما هو استراتيجي لكي يحقق بعض المكاسب الوقتية والعارضة.

ماذا كان يمكن أن يحدث لو أن الوفد قوبل باحترام في مطار القاهرة، وسمح له بالذهاب إلى رفح واجتياز المعبر ومن ثم حضور الاحتفال باليوم العالمي للمرأة فى 8 مارس؟ أزعم أن المكسب الحقيقي في هذه الحالة سيكون من نصيب مصر. في حين لن يضيف ذلك شيئا إلى رصيد حماس. إذ ستظهر مصر بمظهر الطرف الرصين الذي يستعلي فوق مرارات الأزمة العابرة مدركا لمسؤولياته واستحقاقات تضامنه مع الشعب الفلسطيني وقضيته. وستبدو بلدا كبيرا وواعيا يفرق بين حماس وبين الشعب الفلسطيني، ولا يحمل الشعب أو يعاقبه من جراء ممارسات حماس أو تجاوزاتها المفترضة. وفي ظل الادعاءات التى يروج لها الإعلام، فإن مصر تكون قد كسبت نقطة في مواجهة حماس إن هي فعلت ذلك. إذ حين تسمح بمرور الوفد ووصوله إلى غزة فإنها بذلك ستوجه رسالة تقول إن هناك فرقا بين أدائنا وأدائكم. وها نحن نقابل السيئة بالحسنة.

هذه الحسابات البسيطة التي لا تحتاج إلى عبقرية. وحين تغيب عن صانع القرار فإنها تثير تساؤلات عدة حول كفاءة آلياته، كما أنها تشكك في مدى الرشد الذي يتمتع به. وهو ما يبعث على القلق والخوف لأن ذلك الخلل قد تكون له تداعيات أفدح في ملفات أخرى أهم وأخطر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق