مصارحة قبل المصالحة - فهمى هويدى


أن تطلق رئاسة الجمهورية في مصر دعوة إلى المصالحة الوطنية، فتلك رسالة جليلة لا ريب، أحد شروط نجاحها أن تتم المصالحة على أرضية المصارحة. من هذه الزاوية أزعم أننا نحتاج قبل أن نفتح الملف إلى الإجابة عن سؤالين، أحدهما مصالحة مع من؟ والثاني على ماذا؟. إذ بغير تحرير المسألتين فإن المصالحة يتعذر الاقتناع بجدواها، وربما لقيت مصير «الحوار» الذي دعا إليه في السابق الرئيس محمد مرسى أكثر من مرة، وغاب عنه الآخر في كل مرة، حتى تحول في نهاية المطاف إلى حوار مع الذات وليس حوارا مع الآخر، الذي هو الطرف الأساسي المعني بالدعوة.

أدري أن عقدنا انفرط بدرجة أو بأخرى في ظل الرئاسة السابقة، وأن ما أصاب الجماعة الوطنية المصرية من تصدعات خلال العام المنقضي ينبغي أن يسجل ضمن سلبيات تلك الفترة، لكنني أفهم أن أكثر تلك التصدعات التأمت أو أنها بسبيل ذلك في ظل الوضع المستجد.

بالتالي فلست أظن أن المقصود بالمصالحة الوطنية هو التصالح مع الليبراليين أو القضاء أو المثقفين أو الأزهر أو الأقباط أو وسائل الإعلام، فهؤلاء جميعا أصبحوا «يدا واحدة» مع قيادات القوات المسلحة ومجمل الوضع الراهن، وعند الحد الأدنى فإن أحدا لا يستطيع أن يدعى بأن هناك مشكلة حقيقية تعوق التصالح مع هؤلاء جميعا.


أما المشكلة والمصالحة المطلوبة فهي مع مجمل التيار الإسلامي، وفي المقدمة منه جماعة الإخوان المسلمين، المحظورة سابقا والمستهجنة والمنكورة حاليا.

أفهم أيضا أن المصالحة المنشودة إذا أريد لها أن تصبح خطوة سياسية إلى الأمام وليس مجرد فرقعة إعلامية، ينبغي أن تسبقها مبادرات لحسن النية واستعادة الثقة.

وإذا صح ذلك فإنه يستدعي قائمة طويلة من الأسئلة، منها مثلا:

1- كيف يمكن أن تتم المصالحة وكل قيادات الجماعة إما في السجن أو جارٍ ملاحقتهم، فضلا عن الرئيس الذي ينتمي إليهم بدوره مسجون هو وأعوانه، لمدة مفتوحة وبتهم غير معلومة؟.

2- وكيف يمكن أن تتقدم المصالحة في حين أن قتلى الإخوان ومن لف لفهم وصل عددهم حتى الآن إلى نحو 150 شخصا، قضوا في مذبحة الحرس الجمهوري، ومقتلة ميدان النهضة بالجيزة، وصدامات حي المنيل، الأمر الذي أضاف إلى المشهد بحيرة من الدماء يتعذر تجاهلها أو عبورها؟

3- وهل يتوقع أحد أن تجرى المصالحة مع طرف يتعرض للتشويه يوميا في ظل دعوات للإلغاء والإقصاء، مقترنة بالتلويح بسيل من الاتهامات التي وصلت إلى الخيانة العظمى؟.

4- وهل من حسن المبادرة أن يدعى طرف إلى الحوار ومنابره مصادرة، ومقاره محترقة أو مغلقة في حين أن كرامات أعضائه وأعراضهم مستباحة لكل من هب ودب من الصائدين والكارهين والمتعصبين؟

إن دعوة الطرف الآخر للمصالحة في ظل استمرار هذه الملابسات يتعذر أخذها على محمل الجد، ولا تفسر إلا بأحد أمرين: 

1- فإما أن تكون مجرد فرقعة إعلامية وسياسية لإيهام الرأي العام في الداخل بأن النظام الجديد حريص على التصالح ولكن الآخرين هم الذين أعرضوا وأصروا على العناد والخصومة. وإما أن يكون المراد بها إذلال الطرف الآخر وإهانته، من خلال مطالبته بأن يأتي إلى طاولة الحوار صاغرا ومنبطحا؟
وأرجو ألا يظن أحد المسألة يمكن أن تعالج بالبلاغة والإنشاء،
كأن يتحدث أركان الوضع المستجد في كل مناسبة عن أن النظام الجديد لا يقصي أحدا، إلا إذا كان المقصود أنه لن يقف عند حدود الإقصاء ولكنه لن يمانع في الاقتلاع والإبادة السياسية. وهو ما ذكرني بما كتبته ذات مرة في عهد مبارك بعدما تم الاعتداء بالضرب على أحد الزملاء الصحفيين، وقلت إن الرئيس (آنذاك) قال إنه لن يقصف قلم أي صحفي، ولكنه لم يقل أنه لن يقصف رقبة أحد.

2- الأمر الثاني المهم، بل الأكثر أهمية هو السؤال مصالحة على ماذا؟. ذلك أننا بصدد أزمتين وليس أزمة واحدة. فثمة مشكلة مع الرئيس مرسي والإخوان ومشكلة أخرى تتعلق بمستقبل الوطن، والأخيرة تنصب على مصير الحلم الديمقراطي الذي بات مهددا. ومن اللافت للنظر أن الاهتمام مسلط على مشكلة النظام الجديد مع الإخوان، لكن قضية مستقبل الديمقراطية لا تلقى ما تستحقه من اهتمام، حتى من قبل أغلب الليبراليين الذين ما برحوا يعظوننا في ضرورة الديمقراطية وأهمية احترام قيمها وآلياتها.

إننا نريد مصالحة مع الديمقراطية أيضا وليس مع الإخوان فحسب.
 نريد أن يصبح الشعب وليس الجيش هو صاحب القرار ومصدر السلطات، نريد للجيش أن يحرس الحدود وللمجتمع أن ينهض بدوره كحارس لنظامه ومستقبله. نريد لخلافاتنا أن تحسم من خلال القانون والدستور وليس في ظل الدبابة والمدفع.

إذا أريد لدعوة المصالحة الوطنية أن تكون مقصورة على حل مشكلة الجماعة في حين تغض الطرف عن مشكلة الوطن، فإن الاستجابة لها في هذه الحالة تصبح مشاركة في الإثم ونوعا من التواطؤ على مسيرة الديمقراطية في مصر.

 بل أزعم أنها تغدو كمينا نقع فيه وليس جسرا نعبر عليه إلى المستقبل. لا أحد يستطيع أن يرفض الدعوة إلى المصالحة شريطة أن تكون خطوة باتجاه تحقيق الحلم وليس سبيلا إلى الالتفاف عليه وإجهاضه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق