السيناريو الرابع - فهمى هويدى


هل يمكن أن تلجأ الجماعة الإسلامية في مصر إلى العنف بعد مراجعة المراجعات؟ هذا السؤال طرح عليّ عدة مرات، خلال الأيام الأربعة الماضية، في سياق مناقشات لم تتوقف لما كتبته، يوم ٨/٧ (الثلاثاء) عن خيارات مستقبل مصر.

واستبعدت فيه احتمال العودة إلى خيار العنف والاقتتال الذي ساد في الجزائر بعد إجهاض الجيش للتجربة الديمقراطية، كما استبعدت السيناريو الروماني الذي لعب جهاز الأمن فيه لعبته ونجح في استعادة النظام القديم في شكل جديد بعد الثورة على نظام الرئيس شاوشيسكو. لكني لم أستبعد السيناريو التركي الذي هيمن فيه الجيش على السلطة طوال سبعة عقود، ولم ترفع يده عن مقدرات ومصير الشعب التركي إلا بعد أن تولى حزب العدالة والتنمية السلطة في عام 2002.

لقد دعاني البعض إلى إعادة النظر في تلك الافتراضات، وانصبت آراؤهم على أمرين، أولهما: أنه لا ينبغي استبعاد سيناريو عودة العنف إلى مصر. وثانيهما: أن السيناريو الأمني الذي اتبع في رومانيا كان بعضه حاضرا في أحداث ما بعد ثورة 25 يناير.

ما أقلقني في هذه الأصداء كان اقتناع البعض بأن الأجواء الراهنة في مصر من شأنها أن تعيد مصر إلى إرهاب أجواء الثمانينيات.

ومن هؤلاء من ذكر أنني حين استبعدت خيار العنف، فإنني ركزت على اختلاف الأوضاع بين الجزائر ومصر. لكن ذلك ليس كل شيء، لأن هناك متشابهات بين ظروف البلدين.


قالوا مثلا إن استبعاد فكرة عودة العنف إلى مصر لا ينبغي أن يكون مطلقا، لأنه لا يهبط على الناس فجأة من السماء، ولكن الظروف والتفاعلات الحاصلة على الأرض تستدعيه. آية ذلك مثلا أن تظاهرات المصريين التي تمت خلال العام الأخير شهدت أشكالا من العنف غير مألوفة في المجتمع المصري الذي يمتدح كثيرون وداعته وقلة انفعالاته. كما أن عنف الثمانينيات أيضا تحول إلى ظاهرة غير مألوفة جاءت ردا على عنف السلطة. في هذه النقطة سألني البعض: ما الذي تتوقعه من مؤيدي الرئيس مرسي الذين قتل منهم نحو عشرين شخصا في مظاهرتهم بالجيزة وقتل أكثر من خمسين في مذبحة الحرس الجمهوري، ومن يضمن السيطرة على حماس شبابهم وهم يرون مقار الجماعة تحرق وتنهب على مرأى من الشرطة التي وقفت متفرجة وأحيانا مشجعة؟

أضاف آخر أن هناك فرقا بين طبيعة الشعبين حقا، إلا أنه إذا كان الجزائريون أسرع في الانفعال فإن المصريين ليسوا بالبلادة التي تجعلهم لا يستجيبون للاستفزاز مهما بلغ ــ وإذا كانت الطبيعة الجغرافية مختلفة بين البلدين، إلا أن جغرافية مصر لا تزال تتيح الفرصة للراغبين بممارسة الكر والفر، وفي شبه جزيرة سيناء وفي صعيد مصر الحافل بالصحاري الشاسعة والجبال الشاهقة متسع لذلك. في هذا الصدد لفت انتباهي كثيرون إلى أن السلاح موجود في كل مكان بمصر الآن، والكلام متواتر عن أن في البلد الآن كمية من السلاح لم تعرفها في تاريخها، وقد تسربت تلك الكميات عبر ليبيا والسودان.

ومن هؤلاء من قال إن مجموعة السلفية الجهادية المرتبطة بالقاعدة لها أنصارها في مصر، وهم يلوحون بالعنف بين الحين والآخر. صحيح أنه ليس لهم ثقل عددب لأنهم مجرد عشرات من الأشخاص، لكن تصاعد حدة المواجهات الراهنة قد يشجع آخرين من الشباب المتدين للالتحاق بهم.

كان ردي على ما سمعت أنه يحسب لثورة 25 يناير أنها فتحت الأبواب على مصارعيها أمام الجميع للمشاركة في العمل السياسي. وهو ما جذب الإسلاميين كافة إلى الساحة، بعدما أدركوا أن دعوتهم إلى التغيير متاحة من خلال الوسائل السلمية. ومن ثم دخل الجميع إلى الحلبة ومن خلال الشرعية، بمن فيهم الذين استهجنوا الديمقراطية وتشككوا فيها. وترتب على ذلك اختفاء تنظيمات العنف في مصر وطي صفحتها، وذلك إنجاز مهم لا ريب.

قلت أيضا إن الجماعة الإسلامية التي مارست العنف حينا من الدهر أثبتت أنها جادة في مراجعاتها، وتحولت إلى نموذج محترم للنضج في مباشرة العمل السياسي، ومن الواضح أنهم استوعبوا دروس تجربتهم التي مر عليها الآن نحو ربع قرن. وإذا كنت أطمأن إلى أداء ذلك الجيل لكنني لا أستطيع أن أضمن ردود أفعال الأجيال الجديدة من الشباب في ظل أجواء التوتر والقمع الراهنة.

إن إحدى مشكلات تحليل الظاهرة أننا نركز في حواراتنا على عنف الجماعات لكننا نتجاهل أو نسكت على عنف الحكومات، الذي هو في أغلب الأحوال مصدر البلاء وبيت الداء. وإزاء ما قيل عن استعادة الأجهزة الأمنية لدورها التقليدي بعد 30 يونيو فإنني أخشى أن نكون بصدد الانزلاق تجاه عنف السلطة، لذلك فإنني أصحح موقفي من استبعاد السيناريو الجزائري، مضيفا أن ذلك الاستبعاد مؤقت وأنه مستمر حتى إشعار آخر.

ولا أخفي أنني بعد الذي سمعته عن دور أجهزة الأمن في مصر قبل تظاهرات 30 يونيو وبعدها، صرت أكثر ميلا إلى قبول فكرة إدماج السيناريوهات الثلاثة، وأكثر قبولا لاحتمال دخول مصر في سيناريو رابع تتداخل فيه بصمات الجزائري مع أصداء الروماني في خلطة توضع في الوعاء التركي ــ والله أعلم...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق